لماذا تتجاوز القوّة السياسية الثقافة والقيم؟ لكن، لماذا تتقنّع بالمثل والمبادئ لكي تخدع الناس فيقعوا في المصيدة؟ لأنها، عند تجريدها من زخرف المهابة وبهرج الآليات والديكور المسرحي والمكياج، ينكشف خضوعها للغرائز المبرمجة في المورثات، فهي محتاجة إلى كل ذلك الإخراج لمحاولة إخفاء حقيقة المقاصد. طريف أن كلمة «هيبوكريت» (المنافق) في الإنجليزية والفرنسية، أصلها يوناني وتعني الممثل، لأن له وجهين. في مأثورنا «ذو الوجهين لا يكون عند الله وجيهاً»، ولا عند الشعوب.
هل يمكن العثور على علاقة، ولو في أدنى النسبية، بين ساسة القوى الكبرى العريقة، وميراث بلدانهم الثقافي فلسفةً وآداباً وفنوناً؟ كيف يتسنى الجمع بين أوضح صور التناقض والتعارض، بين فراديس المعارف والعلوم والموسيقى والفنون التشكيلية، وجحيم المخططات الاستعمارية الرامية إلى الخراب والإبادة والنهب، المبنية على أحابيل الأكاذيب، وأباطيل الألاعيب؟ لا تبرير لذلك ولا تفسير سوى الغريزة الطبيعية التي تمليها القوانين المشفرة في الحمض النووي: الجوع تحدٍّ والافتراس استجابة. كلّ ما يتعذر على الاصطياد الفردي، يتيسر بالهجوم الجماعي بعد الإنهاك وانهيار القوى.
كم يبدو التفكير ساذجاً، إذا توهم المرء أن جهابذة التخطيط الجيوسياسي والجيوستراتيجي، حين يجتمعون عاكفين على الخرائط، يمكن أن يخطر على بالهم عظماء شعوبهم الذين أهدوا إلى الإنسانية كنوزاً من البدائع والروائع فكراً وفناً، فلسفة تاريخ وعلوماً، طبّاً يشفي الجسم العليل، وسيمفونيات تغذي الروح وتلهم العقول. على هذا المنوال للأسف: لا تنصرف أذهان أهل الثقافة والفلسفة ومراكز البحث العلمي الرفيعة، في القوى الكبرى، إلى مصدر الوقود الذي في خزانات سياراتهم، هل هو منهوب مسلوب من ثروات الشعوب، أم هو حق مستحق جاء بمعاملات تجاريّة متكافئة عادلة؟ لا يفكرون في أن المدنية الزاهية الزاهرة التي ينعمون بجنانها، قامت على احتلال البلدان وإفقارها بالاستيلاء على ثرواتها وتركها طويلاً، قصداً وعمداً، في ظلمات الجهل والتخلف وطواحين الفتن ودوامات الديون.
لو جُمعت قرون الحضارات التي قامت على أرض الشرق الأوسط، لفاقت بكثير مجموع قرون الحضارات الأخرى على الكوكب. عليك الاكتفاء بأرض سوريا والعراق ومصر فحسب، فلديك ما لا يقل عن أربعة وعشرين قرناً. ألا ترى أن ذاكرة هذه البلدان مستهدفة؟ لماذا وضعها بن جوريون في قلب أهداف «الدارتس» الاستراتيجي، فصارت السهام موجهة إليها؟
لزوم ما يلزم: النتيجة المنطقية: أليس من العجيب أن ننتظر من سياسات القوة الغريزية الفتاكة، التي لا تحترم ثقافاتها وقيمها، أن تكترث لثقافتنا وقيمنا نحن؟
جريدة الخليج