يمضي القاص والروائي الإماراتي سلطان العميمي في ترسيخ تجربته السردية التي بدت متميزة منذ البداية بجوها الفانتازي الذي ينحو بهدوء نحو غرائبية أليفة لا تتخلى تماماً عن الخلفية الواقعية. وبرز لديه ميل نحو اللعبة السردية التوهيمية التي تجعل من الحدث أو الوقيعة القصصية أو الروائية ممكنة أو محتملة ومتخيلة أو متوهمة في آن واحد. نجح العميمي في تأسيس مناخ خاص في ما كتب من قصص هي قصيرة جداً حيناً وعادية في طولها حينا آخر، مرتكزاً إلى لعبة «القرين» الذي يعني الأنا والآخر في العلاقة المرآوية التي تجمع بينهما وترتقي بهما إلى مرتبة الثنائية التي ليست هي انفصاماً ولا تشظياً. ولعله في هذه اللعبة يسلك مسلك الكاتب الأرجنتيني بورخيس الذي كان له أثر على روائيين كثر مثل البرتغالي جوزيه سراماغو والبرازيلي بابلو كويلو والأميركي بول أوستر الذي شرع أبواب هذه اللعبة على اللامعقول. وقد استقى بورخيس أصلاً معالم هذا السرد من بعض حكايات «ألف ليلة وليلة» التي كانت ولا تزال أحد مراجع سلطان العميمي على رغم تفرده في لعبته القصصية التي تتراوح بين الواقعي والمتخيل أو تجمع بينهما لخلق حال من الالتباس الوجودي.
لا تبدو المجموعة القصصية الجديدة «إشارة لا تلفت الانتباه» (الدار العربية للعلوم- ناشرون، دار ثقافة) غريبة عن أجواء سلطان العميمي بل هي تسعى إلى بلورة التجربة التي يخوضها منذ سنوات، باحثاً عن خصائص غير مألوفة في الأسلوب والتقنيات والمقاربات القصصية. ولا غرابة أن يستهل المجموعة بما يسميه «عتبة» يهدي فيها الكتاب إلى أبيه مناقشاً قدريته التي لم تجعل اسمه مثلاً «بخيت» عوضاً عن «سلطان»، فهي كانت آنذاك لتغير كنية الأب من «أبو سلطان» إلى «أبو بخيت»، ومن معاني «بخيت» المحظوظ.
المؤلف القرين
قد تكون القصة الأولى التي حملت المجموعة عنوانها «لا إشارة تلفت الانتباه» خير مدخل إلى عالم المجموعة وعالم العميمي في وقت واحد. هنا يختلط اسم الكاتب أو الراوي الذي هو سلطان العميمي نفسه باسم كاتب آخر يظهر توهيمياً أنه هو صاحب القصة نفسها «إشارة لا تلفت الانتباه». لكنّ الطرافة تتجلى في كون المؤلف الثاني المدعي أنه المؤلف الأصلي يقيم في السنغال وأسمه عبد الحق ماواقا وقد أرسل إلى الراوي أو الكاتب نفسه ظرفاً عبر البريد، يضم المجموعة القصصية «إشارة لا تلفت الانتباه» موقعة باسمه. وكان العميمي استبق هذا الحادث اللامتوقع متحدثاً عن اتصالات هاتفية كان تأتيه من إحدى الدول الأفريقية وكان المتكلم يدعى عبد الحق السنغالي، ويبلغه بأنه حلم برقمه قبل ليلة وقد أعطاه إياه شيخ مسنّ زاره في المنام وطلب منه الاتصال بالكاتب ليخبره بوجود كنز مدفون تحت بيته. وقد هدده المتكلم بحادثة سيئة ستواجهه إن هو استهزأ به. إلا أن الراوي لم ينثن عن التفكير بما عدّه مزحة، متسائلاً عن إمكان وجود كنز تحت بيته. وصادف أن وقع على إحدى قصص «ألف ليلة وليلة» هي «الليلة 351» التي تروي حكاية رجل يدعى محمد المغربي، يعيش في القاهرة وكان أفلس بعدما كان ثرياً، فيرى في منامه رجلاً يُخرج من فمه قطعة نقود ذهبية، ويقول له: إن ثروتك في أصفهان من بلاد فارس فاذهب وابحث عنها…». وهنا تتوالى الأحداث المعروفة والتي تختفي فيها الخطوط الفاصلة بين الحقيقة والوهم. وكان موفّقاً إدراج الكاتب (المفترض) هذه القصة في صلب قصته هو الذي كما يعترف، يعمل على إنجاز مجموعة قصصية. بدت الاستعارة المستمدة من «ألف ليلة…» كأنها ترسيخ للعبة المفتوحة على المصادفات والأحداث اللامتوقعة. وقد اختبر سلطان العميمي هذه اللعبة في قصص له سابقة وحتى في سرده الروائي.
تتنوع أجواء المجموعة القصصية بحسب تنوع الموضوعات التي يختارها الكاتب. في أحيان يكتب قصة لا تتعدى الجملة وتفيض بالسخرية السوداء تلك التي وصفها اندريه بروتون في كتابه» أنتولوجيا السخرية السوداء» بالعبث القدري. والقصة- الجملة عنوانها «آخر الأحياء» وهي: «في جنازة آخر الرجال النبلاء، مشى آلاف الأموات من أهل المدينة لوداع آخر الأحياء». قد لا تحتاج هذه اللقطة القصصية إلى مزيد من التوسع ما دامت تختصر فكرة أو واقعة رمزية.
أما القصص الأخرى فلا تخلو من الطرافة والعبث والسخرية في كافة تدرجاتها حتى وإن كانت واقعية في أحيان. ومنها على سبيل المثل قصة «هزيمة» التي تدور حول هزيم الدويمي الذي يوقع في شباكه هو المزواج والمطلاق، صبية هي الراوية العزباء وقد وعدها بالخطبة والزواج ثم تكتشف بعد مماته المفاجئ أنه متزوج مرات أربعاً. وتكتشف خدعته عندما تذهب إلى العزاء فتتعرف إلى نسوته الأربع، ثلاث مطلقات وزوجة أخيرة : «ثلاث سيدات كن واجمات وجالسات بعضهن بقرب بعضهن». وبعد أن تحنق عليه تقول: «لقد هزمني هزيم». في قصة «موقف» يعتدي الراوي على سيارة بيضاء اللون تحتل موقف سيارته أمام الفيللا التي يقطنها ثم يكتشف أنها سيارة شقيقه الذي يقيم معه. ويتبدل الجو القصصي في قصة «حياة» القصيرة التي تبدو كأنها أقرب إلى السرديات الأليغورية التي تختزن بعداً فلسفياً أو وجودياً ومنها نصوص سعدي الشيرازي. في هذه القصة يتطرق الكاتب إلى فكرة العود الطبيعي (وليس الأزلي) من خلال الدودة التي يلتهمها طائر يطلق صياد عليه النار فيرديه ثم يشويه ويأكله لكنه لا يلبث أن يسقط صريعاً في سيارته حين عودته فتتحلل جثته في الصحراء ويخرج الدود منها فينقض عليها طائر ليلتهمها… وهكذا دواليك.
وفي قصة بديعة يفسح سلطان العميمي لرصاصة أداء مهمة السرد فتدور قصة «انبثاق» على لسانها. ولعلها المرة الأولى تروي فيها رصاصة موت إنسان اخترقت جسده. تدرك الرصاصة أنها ليست هي القاتلة ولو أنها أداة القتل، بل هي تبدو أشد إنسانية من القاتل الذي أطلقها. وليس اختراقها جسد القتيل إلا موتاً لها: «لامعة كنت، مسالمة، تحملني الأيدي دون خوف، على الرغم من خوفها مني في أحيان كثيرة. ثم انبثقت لأشق طريقي معانقة نهاية حياتي السريعة، وفي انطلاقتي إلى تلك النهاية اعترتني سخونة سريعة لا أعرف كيف أصفها، ولا أجد كلمة يمكنها التعبير عن إحساسي المفاجئ بها في وسط ذلك الجو البارد الذي كان يحيط بي قبل أن يحتضنني جسم رجل غريب ارتعش بذهول حين التحمنا معاً، ثم صرخ صرخة شبه مكتومة تبعها هدوء جسدينا في مكانهما». لا أعتقد أنني قرأت نصاً في هذا الصدد أقوى وأشف وأرهف من هذا النص الذي يختزن في عمقه مأساة إنسانية أليمة. في هذا النص ما يحاكي اللقيا السردية والشعرية النادرة.
الكاتب وظلّه
وفي قصة تتفاوت بين المتخيل والواقعي أيضاً عنوانها «فكرة» يسرد الراوي كيف أن أبطال روايته الأولى التي نضجت فكرتها، يتمردون عليه ويرفضون أداء أدوارهم فيضطر إلى تقمص كل الشخصيات، لكنه بعد فراغه من كتابة المسودة الأولى منها انتبه إلى ظله الذي كان يتحرك على الأوراق بلا انقطاع. هنا يدخل الكاتب في حوار طريف مع ظله الذي يطالبه بدور يؤديه في الرواية. إنه حوار الشخص مع ظله، في المعنى الوجودي، القائم على «العبودية» المتبادلة بين الظل والشخص. في قصة «اختباء» يقترح الزوج على زوجته فكرة العودة إلى الطفولة عبر لعبة الاختباء كأن يختفي فتبحث عنه. ولكن ما إن بدأت اللعبة حتى اختفى وما برحت تبحث عنه حتى اليوم. أما في قصة «نسيان» فتنقلب المعادلة، وتبدو الزوجة في حال من اللامبالاة حيال زوجها الذي تنسى يوم مولده ولون بدلته المفضل ومقاس حذائه واسم عطره… لكن ذاكرتها تفيض بالرجال الذين عبروا حياتها سابقاً. في قصة «قبعة وساحر» الجميلة يدخل شاب معدم بيت الساحر الذي كان شاهده في السيرك ويطلب منه أن يساعده في الحصول على بطاقة سفر عبر لعبته السحرية. اضطر الساحر الذي كان مريضاً أن يفضح لعبته أمام الشاب الذي هدده بمسدس ويخبره أن السحر ليس إلا خدعة مسرحية. وتتوالى وقائع القصة حتى ينكشف أمرهما كليهما فهما ليسا إلا شخصيتين في قصة ينتظران أن يضع المؤلف نهاية لها. في قصة «السابعة صباحاً- العمارة 12» يعتمد الكاتب لعبة «سينوغرافية» طريفة جداً، جاعلاً من إحدى العمارات مسرحاً لشخصيات وأحداث، وزعها كلها على الشقق ذات الأرقام المحددة: رجل عجوز، خادمة، حارس البناية، السيدة وزائراتها، الشاب الذي يغني، الصحافي… وفي ختام القصة المشهدية يخرج شرطيان من العمارة برفقة امرأتين مغطيتي الوجه، وردت معلومات عن امتهانهما الدعارة. وفي قصة «مصابيح» تعود ميس إلى حبيبها شهاب بعد انقطاع دام عشرين عاماً. كان أيام الجامعة، يسميها «سيدة الظلام» لأنها كانت تشترط عليه إذا تزوجا أن يمارس الحب معها في الظلام. لكن الحبيبة العائدة بعد زواج وطلاق تكتشف أن حبيبها أصيب بالعماء أو كما يقول لها بعدما التمس أنها بدلت عطرها وأن جسدها ترهل «المصابيح انطفأت منذ عشر سنوات». الظلام الذي كانت تتمسك به لميس حل على شهاب الحبيب الأول الذي بات هو «سيد الظلام».
أما مفاجأة المجموعة فهي المتوالية القصصية التي تحتل أكثر من خمسين صفحة وعنوانها «وجبات» وتتوزع في خمسة فصول هي: وجبة سريعة، بين وجبتين، وجبة بطعم الخيبة، وجبة بطعم الهراء، وجبة من ورق. تتداخل الوقائع في هذه الفصول المستقلة والمتصلة في وقت واحد، وكذلك الشخصيات، وتدور جميعاً حول محور رئيس هو عالم الصحافة والتحقيق والكتابة القصصية التي تتواجه عبرها الشخصية الواقعية بالشخصية المتخلية. وهذه المتوالية تستحق قراءة خاصة بصفتها نموذجاً متقدماً لما يسمى فن المتوالية القصصية.