سلطان العويس شاعر الحبّ والدهشة

IMG_3066

يعدُّ الشاعر سلطان العويس( 1925 ـ 2000م) حالة شعريّة مهمة في المسيرة الإبداعيّة العربية المعاصرة على وجه العموم وفي حركة الشعر في دولة الإمارات العربية المتحدة على وجه الخصوص؛ ذلك أنّه فضلاً عن إبداعه الشعري ومساهمته في الحركة الشعريّة العربية بقصائده الوجدانية، والقومية ذات المستوى الرفيع مبنى ومعنى، نجده يُسهم في نهضة فكرية تُلامس الإنتاج الأدبي في كافة أرجاء الوطن العربي من خلال جائزته الأدبية التي أوجدها لتكون نبراساً للشعر والشعراء، تبحث عن القصيدة المتميزة والشاعر المجيد لتمنحه ألقًا وتميّزًا آخر، وتمنح الحركة الأدبية العربية طاقة فكرية متوهجة، تحافظ على مستوى الشعر العربي في قوالبه الإبداعية، وتمنعه من الانحدار الفكري، والضعف الفني في ظل عالم يشهد متغيرات كثيرة عاصفة.سلطان العويس شاعر إنسان قبل كلّ شيء، منحه الشعر عاطفة متّقدة، وبساطة ووضوحًا محببين، أنجبته أرض الإمارات العربية المتحدة بأصالتها وعنفوانها، وروحها العربية الصافية.أيّ وفاء للشعر والشعراء سجله سلطان العويس، إنّه وفاء المحبّ للجمال، وجوهر العشق المعتّق للكلمة الصادقة والشعر الأصيل، والالتزام بكلّ ما يمنح الحياة معناها، إذ تجسّد هذا الوفاء بجائزته الأدبية التي منح من خلالها ثروته للأدب الأصيل الذي هو الحياة في أجمل صورها. فالشعراء هم أهله، وورثته الذين يواصلون مسيرة الشعر العربي كما تفجّرت في صحراء العرب الخالدة؛ ليظل الشعر علامة رقي، وفاعلية فكرية، تستجمع الأحلام، وتعالج الهزائم، وتحتفي بالإنجاز.لقد انتصر سلطان العويس للثقافة ودورها التنويري وللإبداع وأثره الخالد في النفوس إيماناً منه بسلطة الثقافة وقدرتها على التعبير، والتغيير الإيجابي، وها هو يُحيّي الفائزين بجائزته بقصيدة معبّرة يقول فيها ( 1):إنّما أقْلامُكُمْ مِنْ ذاتِكُمْلَمْ تُزَيَّفْ بِرنينِ الخُطبقادةَ الفِكرِ إليكُمْ نَنْتميفشَذا المِسْكِ بطيبِ العِنَبِيا شُموخَ المجد هلْ كانَ النُّهىغَيرَ نَبعٍ في بُطونِ الكُتُبِلم ينفصل شعر سلطان العويس عن شخصيته، فهو شعر الكلمة الصادقة، والمعنى النبيل، يتميّز بسهولة الأداء وبساطة البوح، وجماليّة المعنى وقوة التأثير، يضجّ بالحبّ ليملأ القلوب وجدًا ووفاء.ينتمي الشاعر إلى جيل السبعينيات، إذ نشر أوّل قصيدة له في مجلة » الورود» البيروتية، وكأيّ شاعر ينشر لأول مرة، فإن محاولة إثبات الذات هي هدفه الأسمى، لذلك فإن الرغبة في ترسيخ التجربة الشعريّة كانت واضحة منذ قصائد الشاعر الأولى.إنّ مغامرة الشاعر في ارتياد آفاق القصيدة واكتناه أعماق النصوص بدت واضحة في الرؤيا والبناء الفني لشعره بعيدًا عن التكرار والغموض.يُعيد سلطان العويس في قصائده تشكيل المعنى وفقًا لما يُحسّ به، وكأنه يُترجم إحساسه وجدًا ولغة عذبة تمنح كلّ شيء هويّة وجدانية منبعها الإحساس الصادق، ووسيلتها الكلمة المعبرة، وهدفها طرق وجدان المتلقي بعفوية ومباشرة لا تفتقد إلى سحر اللغة وبراعة التعبير.نلمس في قصائده وهج الدهشة، وبلاغة الإمتاع، وعفوية البوح، وانتظام العاطفة الباعثة على التعلق بكلّ معشوق.وهكذا فإن الشعر لدى سلطان العويس اشتباك مع المعنى، وإعادة تشكيل للمدركات بلغة الشاعر الخاصة. ليس أدل على عفوية الشاعر ونظمه للشعر بالفطرة من اقتراب المستوى الفني لقصائده التي نظمها في بدايات تجربته من تلك التي نظمها لاحقًا، وكأن الشاعر ينظم وجده وروحه بكلّ عفوية.فالشعر شعور، والإنسان يولد شاعرًا بنزوعه إلى التأمل، ومحاكاة الطبيعة، ومناجاتها، هكذا نجد سلطان العويس في قصائده شاعر العفوية الصافية، والصورة المعبرة، اتّجه منذ بداياته الشعريّة إلى المرأة والوطن بوصفهما منبع الشعريّة العذب، وفضائها الخصب، المرأة بقلبها النابض بالحبّ، والوطن بأصالته ودفء ترابه، ممّا شكّل للشاعر عالماً قابلاً للحياة بعيدًا عن السياسة وتقلباتها، فالثابت هو المرأة بكلّ مقوماتها المادية والمعنوية، ممّا أنتج شعراً يكشف عن شاعر رقيق وظّف الحواس لتجسيد الفكرة، فأبدع السهل الممتنع، وحقق موائمة واضحة تجمع رشاقة اللفظ، وقوة المعنى. لذلك يُعلي الشاعر من الحبّ جاعلاً منه حياة قائمة، حيث يقول في قصيدة ( رماد الحبّ)(2):دَعُوا الحُبَّ يَأْخُذْ ما تَبَقَّى فإِنَّنيوَجَدْتُ رَمادَ الحُبِّ أقوى من الحُبِأمامي الهَوى.. والعاذلونَ تَجَمّعُوافيا لَكَ مِنْ بُعْدٍ! ويا لَكَ مِنْ قُرْبِ!إنّ حافز الإبداع عند الشاعر هو الوطن والمحبوبة، وكلاهما معشوق، يمنح الشعر مرجعية سامية وشعوراً بدفء العلاقة بالآخر. إذ أبدع الشاعر في المرأة صوراً جديدة تتوافر فيها الصنعة الجمالية، وكأنه فنان مبدع يرسم بكلماته ليحقق متعة جمالية، ممّا يجعل الصورة الفنية ذات علاقة وثيقة بانفعالات النفس الشاعرة لإحداث الهزة الفنية في المتلقي التي هي نتاج مخيلة الشاعر المتشكلة في صور فنية مؤثرة، يقول في مقطوعته الشعرية(3):ما إنْ أرى حَوَرَ العُيونِ بمُقْلةٍإلا تَغَنَّتْ لِلعُيونِ طُيوريأنا للجمالِ ضَحيَّةٌ لا تَنْتهيوفراشٌةٌ للنّارِ أو للنُّورِفالشاعر معنيٌّ ببلاغة الإفهام دون مبالغة أو تعقيد، لغته الشعرية ذات بعد جمالي واضح بالغ الإدهاش والثراء قادرة على تطويع الجملة الشعريّة وجعلها أكثر تماسكاً وقدرة على التأثير بعدما اتّسمت بالتركيز، والتكثيف الدلالي، والثراء المعنوي.يبدو الانفعال العاطفي مهمًا لخلق الجمال الفني، فالخيال الجامح لا بدّ أن ترفده تجربة وثقافة تختزن الجمال، وتتفاعل مع المدركات الحسيّة، والأحداث بشكل عام. ذلك أن جماليّة الإبداع الشعري تتجلّى بما تحققه من تأثير في المتلقي، إذ امتاز أسلوب سلطان العويس الشعري بكثافة حضور الأفعال التي تعينه على السرد تارة، والحركة والفاعلية العشقية تارة أخرى.أمّا الصور الفنية فجاءت معبرة عن ذات شعريّة متوهجة في وصف الجمال، وما يريد البوح عنه في صور مجسّدة للمعنى الساكن في أعماقه، بعدما وفّر الشاعر لقصائده إيقاعًا خارجيًّا مكونًا من وزن وقافية وإيقاعًا داخليًّا قوامه الجناس والتضاد، ممّا خلق جماليّة فنية واضحة.تبرز خصائص الاتجاه الوجداني واضحة في شعره، وذلك من خلال الوصف والتأمل بالطبيعة، والتعلّق بذكريات الطفولة، والنزعة الإنسانية التي تجعل من الإنسان محورًا لأشعاره.يظهر هذا الاتجاه في علاقته بالمرأة و تقديسه للجمال، وتدفق الحبّ من مفرداته وقوافيه، إذ يقترب في ذلك كثيرًا من الوصف الحسيّ للمحبوبة ومفاتنها، فيرسم مشهد اللقاء بالمحبوبة وكأنه فنان يرسم بالألوان مشهدًا بصريًّا قابلاً للحياة، تتوافر فيه خصائص اللقطة السينمائية المكثفة بنوازعها الإنسانية، وانفعالاتها العاطفية، وإيحاءاتها النفسية، وتعبيراتها المدهشة، كما في قصيدة » قُبلَة » التي يقول فيها(4):سأَلْتُها قُبلةً قالتْ: فِداكَ أبيقَبِّلْ.. وقَبِّلْ.. فما جُودٌ بِمَذْمومِلَمّا دَنَتْ شَفَتي مِنْ خَدِّها ابْتَسَمَتْوماجَ ضَوءُ رُؤاها في التَّقاسيمِظَلِلْتُ أسْتَلُّ راحاً من سَنا شَفَقٍوالطِّيبُ يَعْبَقُ مِنْ أنفاسِ مَحْرومِإذ إنّ اتجاه الشاعر الرومانسي ينحاز إلى التواصل الجمالي مع المتلقي، الذي يحمل في ثناياه تفضيلاً لحقل الطبيعة، وسياقاته الدلاليّة، التي تعتمد على التشخيص، وتكوين الصورة المركبة التي جعلت لغة الشاعر تميل إلى تصعيد الخطاب الوجداني مع المتلقي، وتعبّر عن حالة وهج وجداني، يحتفل بالمرأة، وسياقاتها اللغوية؛ فالأنثى غواية، والطبيعة كذلك، فضلاً عن كونهما مصدراً مهماً للإبداع، وقيمة جماليّة وفنيّة حاضرة بقوة.فالكلمات لم تعدّ وسائل اتّصال حياديّة المعنى، بل صارت ذات دلالة إيحائيّة، وذلك بحضورها المادي المجسّد القادر على التشكيل البصري للمشهد، وجعلها ذات أبعاد روحيّة خصبة، تؤجج المشاعر، وتحمل المتلقي إلى اكتناه أسرار المرأة، والنعيم بعالمها الساحر. كما في قصيدته » إيمان» التي يقول فيها( 5):’إيمانُ» يا عِطْرَ نَفْسٍ في أصائلِهِتُغْرينَ رُوحاً إذا ما شِئْتِ أَوْ جَسَدَالو تَلْبسينَ مِنَ الأسْمالِ أَخْلَقَهالكُنْتِ أَجْمَلَ ممنْ غابَ أو وُجِدَافالشعر مبعثه إلهام، والشعر العظيم غواية، تنتشي بلغة الفناء في المحبوبة، وكأنها روح خالدةٌ تسكنه، كما في قصيدة » فرح» التي يقول فيها(6):أَحْيا أموتُ وأنْتِ السِّرُّ في جَسَديوفي عِظاميَ حَتَّى النَّفْخِ في الصُّورِمَنْ ضَمَّ مِثْلَكِ لا تُرْضِيهِ إمْرأَةٌحتّى يَمُنَّ عليهِ اللهُ بِالحُورِإنّ الوطن والمرأة والعشق مرجعيات واضحة في شعر سلطان العويس، شكلت رؤية الشاعر الفكرية، وأبرزت روحه المحبة للحياة والجمال، ممّا أبرز قوة في اللفظ وعذوبة في المعنى وروعة في التصوير، وجموحاً نحو القصيدة القصيرة أو ما عُرفت قديماً بالمقطعات الشعرية ذات التكثيف النفسي والتصويري العالي، والقدرة على التأثير في المتلقي ممّا منح شعره غنائية واضحة جعلته مصدر إلهام لكثير من الملحنين والمغنين العرب. فما أجمل أن يُغنى الشعر؛ لنكتنه عمقه الإنساني، وروحه الحيّة وفضاءاته الحالمة!الهوامش:1 ـ ديوان سلطان العويس، المطبعة العصرية، دبي، ط2، 1993م، ص 50.2 ـ المصدر نفسه، ص88.3 ـ المصدر نفسه، ص 203.4 ـ المصدر نفسه، ص 302.5 ـ المصدر نفسه، ص 132.6 ـ المصدر نفسه، ص 158.

جريدة الراي