وجد فوز الروائي والمترجم البحريني أمين صالح بجائزة مؤسسة سلطان العويس الإماراتية أخيراً ارتياحاً في الأوساط الأدبية العربية، نظراً إلى المكانة التي يحظى بها بين مبدعي منطقة الخليج، فهو يعد صوتاً طليعياً فريداً، تميز إنتاجه الأدبي منذ سبعينيات القرن الماضي بالتنوع، فضلاً عن عبوره الواعي بين أكثر من نوع أدبي، إذ جمع بين الشعر والسرد في القصة والرواية علاوة على كتاباته الدرامية سواء للمسرح أو للتلفزيون.
واشتغل بالترجمة منذ وقت مبكر، وأتيح له أن ينقل إلى اللغة العربية مجموعة من الكتب المهمة حول الاتجاهات السوريالية ورؤى شعراء العالم حول الشعر وقضاياه، كما ترجم عدة مؤلفات حول أبرز مخرجي السينما في العالم بخاصة فلليني وتاركوفسكي.
هنا مقابلة معه حول مسيرته الأدبية وانشغالاته طوال نصف قرن.
يعبر صالح عن فرحه بالفوز بجائزة العويس نظراً لأهميتها في الوسط الثقافي العربي، ويشير إلى حقيقة أن المسابقات والجوائز، بصورة عامة، ليست معياراً حقيقياً وعادلاً في تقييم المبدعين من حيث الأهمية والمكانة. فالمبدع الحقيقي لا يشعر، في لحظةٍ، بأنه يخوض سباقاً مع الآخرين، أو أنه في حلبة تنافس وتبار. ففي حقول الكتابة الأدبية، كما يقول، سواء في الشعر أو السرد، ثمة العديد من المواهب التي لم تلق بعد اهتماماً نقدياً، أو لم تعرها المؤسسات الثقافية التفاتة هي جديرة بها، ولم تتح لها الفرصة للظهور والبروز. وهناك من بين الأسماء الغائبة أسماء ساطعة إبداعياً، تحتاج فقط إلى الاهتمام الذي يؤكد حضورها في الذاكرة الثقافية.
ويستطرد لافتاً إلى أنه بدأُ الكتابة في أواخر الستينيات. وفي تلك الفترة، يقول: “كان المناخ الثقافي العربي يشهد تحولات عميقة، وبعضها جذرية، في مجال الكتابة الشعرية والقصصية. وشهدت تلك الأوساط الكثير من الجدل والنقاش في شأن واقع الأشكال الفنية ومستقبلها”.
مكتسبات الحداثة
ويوضح أن القصة والرواية مرتا وقتذاك بتحولات عميقة تدعمها ما أحرزته تلك الأشكال من مكتسبات فنية حديثة بفعل التلاقح مع الثقافة الأجنبية من جهة، والتفاعل بين الأجناس والأنواع المتجاورة من جهة أخرى. ويضيف: “هكذا بدأنا نتعرف إلى بنى جديدة في الكتابة الشعرية والقصصية، ونختبر طرائق جديدة في السرد، تبتعد عن المألوف والتقليدي، لتقترب من التفكيك والتشظي وفق حساسية جديدة. وكنت منذ البداية منحازاً إلى هذه التغيرات والتحولات، ومتبنّياً لأطروحاتها”.
ويرى أمين صالح أن لا صلة بين اهتمامه بترجمة المواد التي أنجزها حول الحركة السوريالية وبين إنتاجه الإبداعي في مراحله الأولى، ويشدد على أنه اشتغل على ترجمة كتاب “السوريالية في عيون المرايا” عام 2008، بينما لاحظ النقاد والقراء البعد السوريالي في كتاباته القصصية المبكرة، في السبعينيات، وما تبعها من نصوص ويقول: “في الواقع، تأثرت بالسوريالية في وقت مبكر، مع تعرّفي إلى لوحات دالي وميرو وآخرين، واطلاعي على بياناتهم وكتابات بروتون وإيلوار وريفيردي، وأفلام بونويل. والحاصل أنني انجذبت إلى عوالمهم الساحرة، وصورهم المدهشة، والحرية التامة التي مارسوها ودافعوا عنها. وتأثرت كثيراً بالنتاجات والأفكار والرؤى التي تبنتها هذه الحركة، غير أني لا أعتبر نفسي سوريالياً، بالمعنى أو التعريف الذي حدّدته الحركة نفسها. أعمالي ليست سوريالية صرفة، ولكنها تحتوي على ومضات أو التماعات سوريالية. ومن خلال ذلك أشعر بأن نصوصي تكتسب بعداً جمالياً آخر”.
ويرى صاحب “رهائن الغيب” أن كل ما يرد في النص الذي يكتبه، ينبغي أن يكون متصلاً على نحو عضوي بالمادة الأساسية، وأن تكون موظفة ضمن سياق متجانس، فلا تبدو دخيلة أو متطفلة أو قسرية إلى حد الافتعال. ويوضح أن السرد إذا لم يكن مشبّعاً بروح شعرية، وبحساسية شعرية، فسوف يفتقر إلى العنصر الجمالي الذي من شأنه أن يعزّز اتصال المتلقي بالنص على المستوى الحسّي، وليس الفكري فحسب. ويشير إلى أن أعماله الأدبية بعيدة جداً من الانتشار وعن قوائم الأعلى مبيعاً، مع ذلك، يدرك أن روايته “رهائن الغيب” حازت نسبياً على نصيب أكبر من الاهتمام على الصعيد النقدي أو على مستوى القراء، قياساً إلى كتبه الأخرى، خصوصاً بعد إعادة طباعتها في القاهرة، وترشيحها للجائزة العالمية للرواية العربية “البوكر”.
السيرة والسرد
من جهة أخرى، لا يستطيع أمين صالح أن يقرّر أو يحدّد الأسباب التي أسهمت في استرعاء الانتباه إليها، والاهتمام بها، ويقول: “هناك من النقاد من أشار إلى التقاء السيري (سيرة الأمكنة والأزمنة) بالروائي، ومن تطرّق إلى تنشيط سؤال الجنس الأدبي، ومن تحدّث عن النزوع التجريبي والطموح الحداثي، إضافةً إلى البنية الشعرية. قد تكون كل هذه العوامل معاً.
ورداً على سؤال حول التحديات التي يواجهها الكاتب في علاقته مع اللغة، يجيب مؤكداً أنه يحرص في نصوصه على محو التخوم، أو طمسها أو تضبيبها، بين ما هو واقعي وما هو حلمي، بين ما هو حقيقي وما هو متخيّل أو وهمي. ومحو التخوم بين الأمكنة والأزمنة، وكذلك تتداخل الأمكنة ويتشابك الماضي والحاضر دونما افتعال. ويضيف: “أحرص على المزاوجة بين الواقعي والغرائبي، وعلى إحداث تداخل لما هو نتاج ذاكرة أو حلم أو كابوس أو مخيّلة أو هذيان مع وقائع الحياة اليومية للشخصيات. وأحاول العمل على تفكيك البناء التقليدي، وتفتيت السرد المتعارف عليه استجابةً لرغبة الكشف عن حالات اللاشعور واللاوعي، ومحاولة بناء عالم خاص، مغاير، يستدعيه النص.
عندئذ أكون بحاجة إلى لغةٍ مختلفة، مغايرة، تتواءم مع هذه المضامين وتنسجم معها. لذلك تشغلني اللغة غير التقليدية وغير التقريرية. وأبحث عن لغة منفتحة على منابت الطاقة الإبداعية في النص. لغة هي أداة استقصاء وسبر وبحث واكتشاف، وليست وسيلة لنقل المعلومات. باللغة العادية والتقريرية، لا أستطيع أن أبني نصاً ينسجم مع غايتي وطموحي”.
ويشير صالح إلى أنه منذ البدايات، سعى إلى الاعتناء باللغة، التي يعتبرها، الآلة الموسيقية التي تُعزف عليها أشكال الكتابة. ويقول: “بهذه اللغة أنت تخلق نصك، وتجدّد عناصرك وتقنياتك، ومن ثمّ تجدّد تجربتك وتعمّق رؤيتك. بالتالي لا بد من صقلها وشحذها باستمرار لئلا تصدأ فيصدأ نصك”. ويرى صالح أن الشعر ليس وقفاً على القصيدة فقط، وينتقد من يزعم أن اقتراب الأشكال الفنية الأخرى من تخوم الشعر، بمثابة عدوان صارخ يستحق الشجب. فهؤلاء يزعمون أن صفة الشاعر لا يجوز أن يمتلكها غير من يكتب القصيدة، حتى لو كان فقير الموهبة والمخيلة والحس الشعري.
وبحسب رؤية صالح، فإن الشعر جوهر كل كتابة، وكل فن، بمعنى أنه متجذر ومتأصل في كل فعل إبداعي. ويرفض الاعتقاد بأن الشعر يخص القصيدة وحدها. ويرى أن هذا فهم قاصر لمعنى وطبيعة الشعر، كما يقول، لأن الطاقة الشعرية كامنة في السرد، وكذلك في الصورة السينمائية واللوحة التشكيلية والمقطوعة الموسيقية والمنظر الطبيعي. الشعر أفق مفتوح على مداه، ليشمل كل فعل إبداعي. ولهذا يعتبر أن نصوصه لم تستنفد بعد تلك الطاقة الشعرية، ذلك لأن هذه الطاقة كامنة في السرد.
ويعود صالح إلى تجربته مع الشاعر قاسم حداد في كتابة نص مشترك هو “الجواشن”، ويقول إنه ربما شجّع آخرين على خوض تجربة الكتابة المشتركة. لكن ما ظهر في هذا الاتجاه عبارة عن محاولات قليلة. ويقول: “لم يصلني شخصياً ما يفيد أن لهذه العناصر التي حاولنا إبرازها تأثيراً ما”. ويضيف: “على المستوى الشخصي، كتاب “الجواشن” يمثّل مرحلة أو محطة فاصلة، ومنعطفاً مهماً وضرورياً، في مسار تجربتي الأدبية. لقد كانت مغامرة فنية، حافلة بالمكتشفات، ومكتنزة بالتحولات، التي أفضت إلى آفاق جديدة، غير مألوفة وغير مطروقة بالنسبة لنا. وبهذه المغامرة انتقلت من مرحلة، في تجربة الكتابة، إلى مرحلة أخرى، ذات حساسية جديدة، تتداخل فيها أشكال الكتابة، وتنفتح على عوالم أكثر رحابةً وعمقاً وغنى”.
ويؤكد أمين صالح أن للسينما تأثيراً كبيراً على كتاباته الأدبية، القائمة على الطاقة الشعرية من جهة، والبنية أو التقنية السينمائية من جهة أخرى، سواء في وصف الحالات، والانتقال المكاني والزماني، أو في تجاور الصور والتداخل في ما بينها. ويقول: “في بعض الأحيان استعير عين الكاميرا حتى تسعفني في رسم حركة الواقع، ورصد المرئيات وتحريك المنظور. ولذلك ثمة حس مشهدي في المنظور يتّحد مع الحس التشكيلي. وهو غير مقصود وغير مخطط له، إنما يتكوّن تلقائياً، وعادةً أدركه بعد إنجازه”.