هل السر في خشب أرضية المسرح، لماذا صوت أقدامهم فاتنة، ضربوا على الأرض، كما تفعل الراقصة الإسبانية وهي ترفع بيديها الناعمة أطراف فستانها استعداداً لفعل الفلامنغو للرقص على المحيط، واستمروا بذلك كمن يصفق بحرارة بيديه حتى وصل جيدون كريمير، رئيس أوركسترا الاتحاد الأوروبي للشباب، صعد منصة القيادة، وابتسم للجميع، وفجأة تنتبه بأنهم العازفون، وبأنها أقدامهم، التي خطت لهم أقدارهم.. مصيرهم.. بأن يقضوا شبابهم، في اجتذاب الروح بين أوتار الحياة، وانتزاع الصوت من اللحظة، حيث يجول الصمت بكبرياء المشهد، فلا صوت في العالم يستطيع مجابهة الصمت. فيما بينهم ابتسامات، لم تبدأ المقطوعة بعد، ولم يأذن بمرورها نحونا جيدون كريمير، وهم كمن يعرف ماذا سيحدث لو بدأت «التشيلو»، بمقاطعة «الكمان»، وتنظيم حفلة سرية مع الناي والطبول الضخمة، إلا أن الأوركسترا دائمة المكاشفة، كل شيء معلن، حتى همزات آلة البيانو، لا يمكن إخفاؤها، تظهر في اهتزاز مشاعر الجمهور أو حتى في قمة خوفهم من الإيقاع القادم، فما أن يعتلي الحزن في مقطوعة ما حتى تعلن الآلات رحلة انكسار نحو تجلي مؤلم، لا يمكن مجاوزته بإضافة ضحكات مبتورة. في الموسيقى ترى حضور الحزن كما الفرح واضحاً مكتملاً متنامياً وحراَ.
وبدأ الحوار، أولى المقطوعات كلاسيكية معروفة شهيرة، ولكن العازفين صغار مجهولون حديثون حتى في أحذيتهم الجديدة اللامعة وربطات العنق، كأنها فرشات اختارت من ربيع الأيام رقابهم لتقودهم إلى كل الولادات الموسيقية، في لحظة الانسجام الكلي للمقطوعة، يمسك عشرات العازفين أوتار الصوت الغليظ، ويصرون على إظهاره، إشارة للحس الدرامي، إلا أنه يشبه انتزاع السيجارة من شاعر يهوى ابتلاع الكلمات مرة واحدة، وتجعله يختنق من حبة هواء طفيفة، لا يسعها المرور لبوابة اللغة في الجسد الإنساني، لذا ترى أحيانا بعض حضور الأوركسترا يتنفس الصعداء بعد كل حركة طلوع للسيمفونية. بجوار قائد الأوركسترا جيدون كريمير، تجلس مجموعة قريبة من بعضها، يلتزمون الرد الموسيقي الشفاف طوال الوقت، حضورهم يشبه لقاء العشاق في أماكنهم المعهودة، طوال العزف ينظرون إلى قائدهم، كرؤية العاشق لذاكرة الانطباعات الأولى، حيث يمتازون بتخفيف أثر الحكاية الموسيقية، ولكنهم في الوقت نفسه يمتصون هالات التعقيد، مرددين ابتهالاتهم الصاعدة نحو كل تلك المبررات التي تجعل من الإنسان، يرتكب خطأ ما، بسؤالهم: هل هناك فعلاً ما هو خطأ؟!
في مسرح جامعة نيويورك ـ أبوظبي، استمرت أوركسترا الاتحاد الأوروبي للشباب، بتحويل كل شيء إلى كائن حيّ، فلم يستغرب الحضور، عندما بدأت مقاعدهم الجلدية، تطلب منهم بعضاً من السكون، وترك كل فكرة من شأنها أن تشتت اللحظة الموسيقية، والاستيقاظ الفعلي حصل بدخول العازف الإماراتي فيصل الساري، جلس على مقعده هو الآخر، مشكلاً انضماماً احتفائياً مع فرقته الصغيرة بعددها.. الكبيرة في مستوى إنشاء الإيفاع عبر الطبول، فالأخير ينقلك بدهشة إلى الصحراء، وصوت المطر البعيد الذي ما أن يسقط حتى يشعر أُناس المكان بالرحمة. في وطن العود، يسهل استشفاف الصوت ويصعب إدراك المعنى، آلة العود بطبيعتها متمرده، ألم يعمل العازفون على تجاوز أوتارها الـ6، وهو أمر حدث بطلب من آلة العود نفسها.
ذهب فيصل الساري باتجاه السواحل، وقرب حدود أفق التلاقي بين مياه الخليج والسماء، واستدعى حُلم اللؤلؤ بعد أن توقف عن التنفس، ورمى بنفسه في قاع المحيط، لم ينبس فيصل الساري بكلمة واحدة، إلا أن الأشجار الصغيرة نبتت بين أتربة الآلات النفخية هناك في الخلف، وابتعد العازفون قليلاً حتى يتسنى لها المرور بين الجدران، وإسقاط ثمار الحب على أوجه السامعين المنصيتين لكل هذا الولوج والسحر في أن تحضر أمسية موسيقية لتعيد اكتشافك من جديد.