تحاور صحيفة «البيان» صاحب رواية «لا أحد ينام في الإسكندرية»، بنسقه الواقعي وشخصياته التخيلية، وصاحب الأعمال المهمة التي قدمها للقارئ العربي. ويصحبنا الروائي الكبير إبراهيم عبدالمجيد معه في هذا الحوار إلى رحلة شيقة، تشبه الحلم، من خلال ذاكرة المثقف العربي ومدى ارتباطه بالأدب والفن، فيطرح لنا القضايا الإبداعية والجمالية والتخيلية، في حديث ينتمي إلى الإبداع فقط مهما كانت الأحداث، مؤكداً أنه ينبغي للثقافة أن تكون مثل النور الذي يضيء ما حوله، فما بالنا بالرواية التي تتغذى على آلام الناس والصراعات التي يعيشها، مشيراً إلى أن الفن جمال يصنع إنساناً سوياً.
أولاً: ألف سلامة عليك، بعد رحلة التعب والعلاج التي مررت بها، فماذا يكتب أديبنا اليوم؟
لحسن الحظ، لديّ من الهموم الكثير مما يشغلني عن المرض، فأكتب، لأعيش وأقاوم، وأكتب مقالات أنشرها خارج مصر، كما انتهيت من رواية قصيرة لا أحب الحديث عنها قبل النشر كالعادة، لقد أنجزتها قبل هذا الصيف. أما الآن فلا أكتب قصة ولا رواية، ففي الصيف كما تعودت طوال عمري يتأخر لدي نبات الإبداع، وتغدو المقالات هي الأشجار التي أحاول أن أستظل بها، وإن كان الواقع من حولي غير مشجع على شيء، تبقى المقالات محاولة للخروج من عباءته المؤلمة التي ترهق الروح أكثر من آلام الجسد.
ما رأيك بأنه ينبغي أن لا ينجر الروائي إلى الكتابة عما لا يشعر به، وعليه ألا يفتقر للوعي بما يدور حوله من عادات وسياسات ومجتمعات غارقة في نفسها؟
إن كنت تقصدين بـ«ما لا يشعر به» الأحداث التي تجري للبعيدين عنه، فهذا خطأ، لأن هذه الأحداث مع التأمل هي التي تملأ الروح بالرغبة في الكتابة، وليس ضرورياً أبداً أن يكتب الكاتب عما يحدث له فقط، فمشاعره التي تتعلق بالبشر وقضايا الكون تملأ روحه بالرغبة في تجسيدها بشكل فني، فالموهبة تجعله أكثر إحساساً بما حوله، وهنا نتساءل: هل كل ما يحدث لشخصيات الرواية هي أمور مرّ بها الكاتب نفسه؟ بالطبع لا. الشخصيات والأحداث وكل ما يأتي في الرواية أو القصة هو محصلة خبرات في الحياة ورؤى للبشر، مع القراءة، وكذلك الفهم العميق للتاريخ والواقع. الكاتب الموهوب يدرك أن ما يراه سيخرج منه ما يناسب رواية جديدة. إذن فالآخرون هم مصدر الإلهام في أغلب الأحوال. وطبعاً، من المهم جداً أن يعرف الكاتب أين يعيش وما يحدث حوله، لكن من المهم أيضاً أن تكون رؤيته فنية. الفن هو تجسيد الآلام والأحلام وحتى البهجة في لوحات يراها المشاهد أو يقرأها القارئ. أما الاستشراف فهو عمل غير مقصود من الفنان، لكنه رؤية تأتي من الأحداث والشخصيات، وقد يدركه الناقد ويتعجب المبدع من نفسه كيف فعل ذلك. الفن ليس عملاً قصدياً لأنه ابن الروح أكثر مما هو ابن العقل.
في مصر الأدب الروائي مرتبط بالسياسة، فهل لو تم الفصل بينهما ستعد الرواية نوعاً من الترف؟
هذه مقوله ليست شاملة للجميع. هناك روايات عن أشخاص في أزمات روحية ليست سياسية. ربما تتصل بالوجود أو بمعانٍ فلسفية عن المكان والزمان وغيرها. كما أن هناك روايات كثيرة جداً للخيال العلمي والبوليسي والتسلية، لكن الرواية طبعاً تزيد مع الخراب للأسف. بشكل عام، حتى لو تحققت المدينة الفاضلة على الأرض فلن يعجب ذلك المبدعين، لأن المبدع لا يتواءم مع أي مجتمع. إنه دائماً يريد الأفضل. هكذا خُلق المبدع غير متوائم مع السائد. المدينة الفاضلة لن تتحقق على الأرض، ولن يتوقف المبدعون عن الإبداع. الذين يقرأون الروايات بمعنى سياسي يدخلون بالكاتب في مشكلة. أكبر خطأ في التلقي هو اعتبار مواقف الشخصيات وأحاديثها معبرة عن الكاتب وتحميله مسؤوليتها. صحيح إن السياسة والتحولات الاجتماعية أنتجت وتنتج الكثير من الروايات، لكنها تكون مجرد محفزة لها، ثم يأتي الخيال ليأخذها إلى منطقة الفن.
يقول الشاعر «نيرودا»: «أنا مجرد كاتب حُر يحب الحرية والناس، لأنني منهم»، فهل يلعب الكاتب شاعراً أو روائياً دوراً في نمو المجتمع؟ وهل برأيك هذا الدور النامي قد تراجع أم تقدم، في هذه الألفية التي نعيش؟
كلام نيرودا هو شعور كل كاتب حقيقي، لكن من المهم أن يكون الإبداع فناً وليس حديثاً مباشراً. الحديث المباشر مكانه المقالات. شعر نيرودا أو لوركا أو إيلوار وغيرهم حافل بالصور الفنية، حيث تكون الأفكار في خلفية القصيدة، ويدركها القارئ الحصيف. هكذا يأتي دور الشاعر أو الروائي في نمو المجتمع بالفن الجميل لأن الفن الجميل يصنع إنساناً سوياً. وبالإنسان السوي تتطور المجتمعات، تعرفين أن الفن الجميل مثلاً يمكن أن يجسد الشر والمجرمين أيضاً. لكن الصدق الفني في التجسيد لا يجعل أحداً يفعل مثلهم. يدرك المشاهد أو القارئ فقط أن في العالم أشراراً كما به أخيار. الفن الجميل الذي تركه نيرودا في الشعر وماركيز في الرواية مثلاً جعلنا نشعر بضرورة أن يكون العالم أجمل. أقول نشعر قبل أن نفهم. بعد الشعور بالجمال المفتقد أو بالقهر الواقع على الشخوص أو من الأحداث يأتي الفكر. والآن دور الكاتب الحر يزداد بحكم التدهور في العالم وفرص النشر بعيداً عن الرقابة في موقع مختلفة، لكن بعض المثقفين للأسف يتهمون الآخرين بالقصور لأنهم هم المقصرون فيزيحون عن أنفسهم أخطاءهم.
في الرواية الأدبية، قوة جبارة تسلط الضوء على ما جرى ويجري وسيجري، فإلى متى تعتقد هذه الحقيقة السردية مستمرة؟ مقارنة مع الشعر والقصة؟
جزء كبير من التحول الذي جعل الرواية في مقدمة المشهد هو ما جرى منذ الستينيات من القرن الماضي في العالم كله. في أوروبا، كانت التظاهرات حاشدة، وفي عالمنا العربي وقعت هزيمة 1967. في السبعينيات زادت التغيرات في العالم وصار الإنسان في حاجة إلى الحكي أكثر من الإيجاز في الشعر أو القصة القصيرة، لذلك تقدمت الرواية المشهد. الرواية تتصدر المشهد في العالم كله لكن لن يختفي الشعر، بل سيظل بيتاً سحرياً لمن لديه الوقت للتأمل. الحياة بلا شعر لا معنى لها، وتأخر الشعر جزء كبير منه بسبب التحولات الفنية التي جعلته غير شفاهٍ. كما إن القصيدة النثرية لا يتم تلقيها في المحافل الشفاهية بنفس درجة القصيدة القديمة، لكنها تدعو القارئ للانفراد بها وحده يتأملها على مهل، وكذلك لن تنقطع القصة القصيرة وإن ظل القارئ يميل إلى الحكي الأطول حتى تظهر شواطئ أكثر لراحة البشر في هذا العالم.
قال جون كينيدي يوماً «إذا كان أغلب الساسة يعرفون الشعر والشعراء، فإنهم بالطبع يعرفون السياسة، وسيكون العالم أفضل للعيش فيه».
وبرأيك، هذا الرئيس المثقف لو كان رئيساً في هذه الأيام، فهل سيبدل كلمة الشعراء بالروائيين؟
كتبت يوماً مقالاً أطلب فيه قبل تغيير أي وزارة أن تقوم الدولة بتخصيص شهر للوزراء الجدد يذهبون فيه إلى الأوبرا لمشاهدة البالية وسماع الموسيقى، وإلى المسرح ليرون مسرحية، وإلى السينما. شهر يفعلون فيه ذلك كل يوم فتترقق مشاعرهم، ولم أطلب أن يقرأوا شعراً ولا قصة لأن ذلك يحتاج وقتاً وأنا طالبت بشهر واحد. الفنون كلها تجعل السياسي في وضع روحي أفضل.
كيف هي علاقة الروائي إبراهيم عبدالمجيد بالنقاد؟
قرأت ولا أزل أقرأ كثيراً جداً في النقد وتاريخه، وأرى النقد في العالم العربي عظيماً رغم أن كثيراً منه دخل في سكك صعبة مثل تمثل النظريات النقدية الأجنبية كالبنيوية وما بعد البنيوية، لكن هذا أيضاً مع قليل من الصبر للمبدع يفيد جداً. الشيء الذي لا أزل أؤمن به بعد القراءة في النقد هو ضرورة التمرد على ما استقر عليه النقد لكن بشكل فني.
ما أهم الكتب التي قرأتها وأثرت في مخيلتك الروائية وتجربتك في الحياة والكتابة؟
كثيرة الروايات التي قرأتها صغيراً وغيرت حياتي على رأسها روايات دوستويفسكي والبير كامي ومسرحياته. أيضاً الملاحم القديمة مثل الإلياذة والأوديسا وغيرهما. من الروايات التي ظلت تمشي معي منذ قرأتها عام 1968 رواية «صحراء التتار» لدينو بوتزاتي التي فيها ينتظر الجنود في قلعة خارج المدن قدوم التتار، ويمضي العمر بالبطل الضابط الشاب الجديد بالقلعة ولا يأتي التتار. قرأتها بعد هزيمة 1967 وكنت في الواحدة والعشرين من عمري فساعدتني على الاحتمال وتلاقت مع قراءاتي في الفلسفة وخاصة الفلسفة الوجودية التي غلَّفت فيما بعد أكثر أعمالي. كذلك حملني شعر قنسطنطين كفافيس إلى السماء. وحين قرأت نجيب محفوظ وجدت في الرواية مستقبلي وبيتاً مفتوحاً لي في الفضاء.