تنتابني في بعض الأحيان أفكار اعتقد أنها تدور في خلد الكثيرين، وقد تأكدت من هذا بسؤال مقربين وأصدقاء، ليس فقط في فئات عمرية متقاربة ولكن هذه الأفكار تراود كافة الأعمار، ومن بين هذه الأفكار التي تراودني من حين لآخر، حنيني الى الماضي، الى أيام الطفولة والمرح، الي الأمس، الى ما نطلق عليه تجاوزا «الزمن الجميل»، باعتبار أننا لا نعيش زمناً جميلاً، أو هكذا نقول لبعض عندما نقابل صديقاً من الصغر أو من أيام الدراسة أو بدايات عملنا المهني. وبمجرد أن يراودني هذا الحنين، سرعان ما أسأل نفسي: هل بمقدورنا تغيير مسار حياتنا؟ أو حتى شخصياتنا، وهل نستطيع أن نغير تفكيرنا؟ فالأسئلة ما أكثرها، ولكن هل فعلاً ممكن نعيش حتى في الماضي القريب وليس البعيد كما كنا أطفالا وصغار وشبانا وصولاً لبدايات الرجولة وحتى تحمل كافة المسؤوليات؟.
أعتقد أن كثيرين غير أصدقائي يسألون أنفسهم تلك الأسئلة، بل وفي كل البلدان فقيرة كانت أم غنية، فالحنين الى الماضي لا يرتبط بمكان مثلما لا يرتبط بزمان. والمواقف التي تعيدني الى الماضي كثيرة ومتعددة، ولا تمر أمام عيني مرور الكرام ولكنها تأتي لتستمر، خاصة إذا التقيت صديقاً لم أرَه منذ فترة، أو تذكرت شخصاً التقيته في مكان ما وتآثرت به سلباً أو ايجاباً، أو كلما تذكرت نجاحات حققتها في حياتي، أو حتى لحظات فشل مررت بها، أو جلسة مرح مع مقربين أو العائلة، فكل ما هو ماضٍ يعود لنا في شكل ذكريات، ولكننا نحن لهذا الماضي.. والسؤال: هل الحنين الى الأمس أفضل؟.. أم نعيش حياتنا اليوم باعتباره الحاضر الذي لا مناص منه؟ هذا إذا سلمنا بأن الماضي أو الزمن الجميل كما نحب أن نسميه لن يعود كما كان، لأن هذا الزمن ارتبط بأسرة وجيران وأناس وأصدقاء، ناهيك عن الأمكنة التي عشنا بها ومررنا بها، فهي لن تعود، فالمكان مثل الزمان لا يعود أيضا، لأن الأمكنة تتغير وتتبدل، بدليل إذا عدنا الى مدننا ونحن صغار، فلن نجدها كما هي، فالزمن يغيرها ربما الى الأجمل لتكون أكثر تحضراً، ولكنها لا تعود نفس المكان الذي نحن إليه.
وعلى فرض إن عاد بي الزمن للوراء، فهل أستطيع الاستمتاع به كما كان حالي زمان، اعتقد أن الجواب «لا»، فالمسار سيختلف بلا شك، ولكن علينا في النهاية أن نسلم بالقدر والمكتوب، فكل ما أخذناه من قرارات سواء خاطئة أو صائبة، وكل أفراحنا ونجاحاتنا أو حتى أحزاننا كان لها الفضل في تكوين وتشكيل شخصياتنا بما نحن عليه الآن.
ولكن رغم يقيني هذا، لا يزال يراودني الحنين الى الماضي ولا أدري لماذا هذا الإحساس يتملكني على فترات متقاربة؟.. هل بسبب ما نعيشه من واقع يسير بصورة متسارعة لم نعتدها من قبل أوكما اعتدنا سرعة الحياة في الماضي. والأهم من كل هذا، ماذا سنفعل إذا رجعنا حقا الى الأمس أو عاد بنا الزمن قليلاً إلى الوراء؟
هذا التساؤل وجههته لأصدقاء كثيرين، فماذا كان جوابهم؟.. معظمهم تمنى لو يعود به الزمن للوراء حتى وإن كانوا لا يعرفون ماذا سيفعلون، ولكنه الحنين الى زمان وأيام وليالي زمان وألفة زمان ومحبة وصداقة زمان وجيران زمان، هو الذي يشدنا الى ان نتعلق بكل هذه الصفات الجميلة، نحن لا نفتقدها في زمننا الراهن، ولكن نحب أن نعيشها كما عشناها منذاك الزمن. فالقلوب تهفو للماضي، ربما لبساطة الحياة التي كانت سمة لهذا الزمن الذي نصفه عادة بـ «الزمن الجميل» وهو ما يعني أن حياتنا تغيرت، لا نقول للأسوأ أو للأفضل، ولكنها تغيرت في الواقع، وتغيرت معاً الأحوال والعلاقات الإنسانية والاجتماعية، ولنتخيل معاً معدل الرفاهية الذي نعيشه في وقتنا الراهن، لم يجعلنا ننسى حياتنا القديمة التي ربما خلت من الرفاهية التي يعيشها أبناؤنا وأحفادنا، فارتفاع مستوى الرفاهية اليوم لم يدفعنا لنسيان أمنياتنا بالعودة الى الأمس. فما أحلى العودة لذكريات الطفولة، الى البراءة، الى حضن الأم، الى العابنا البسيطة التي كنا نصنعها بأيدينا لتبقى معنا لا نفارقها ولا نكسرها ونشتري غيرها، فألعابنا كانت جزءاً منا ومن تشكيلنا فنحن ابتكرناها وفقاً لبيئتنا. ومع كل هذا، أراجع نفسي، فبراءة الأطفال أراها في عيون أحفادي، وألعابهم أنا الذي أستمتع بها طالما استمتعوا هم بها، ولعل عودتي عن أفكاري، سببها هي ضرورة أن نساير الحياة حتى نتحرر من أن نظل أسيرى الماضي الجميل رغم بساطته. وأعود لأحدث نفسي كلما راودني الشعور بالعودة الى «الزمن الجميل» وأحاول أقنعها – أي نفسي – بأنه ما قيمة هذا الماضي وعودتي له وحدي بمفردي، وكما يقول المثل الشعبي «الجنة بلا ناس ما تنداس» أو «ما تنعاش»، فلو عدت الى زماني الجميل لن يكون جميلاً إلا إذا عادت معي أسرتي وأهلي وعشيرتي وأصدقائي وجيراني وكل الأحباب، وعادت معه كل الصفات الجميلة التي تحلى به الماضي من حب ووفاء وألفة ومحبة وكرم وإيثار للنفس، فالحياة بشر، وبدونهم لا توجد حياة ولا نستطيع أن نحياها.
ربما داهمني الوقت وكادت المساحة المخصصة للكتابة تقترب من نهايتها، ولكنني أختم بأنه ليس مطلوباً منا أن نعيش أسرى للماضي فقط، وعلينا أن نعيش واقعنا وحاضرنا وحياتنا الحالية دون الاستياء منها لأننا نؤسس بذلك لحياة هانئة، ولكن حتى لا أكون مجافياً للحقيقة، نعيش حاضرنا مع عدم نسيان هذا الماضي الجميل الذي يحمل ذكريات طفولتنا وشبابنا وتسامحنا وطيبتنا وكل صفاتنا الإنسانية الجميلة.. ولكن حتى أغضب البعض، أعود وأكرر علينا أن نعيش حاضرنا لنؤسس حياة سعيدة بمعايير اليوم، وأذكركم وأذكر نفسي أيضا بما نقوله للبعض عندما نلتقي: «الدنيا لا تزال بخير»، وهذه حقيقة، الخير في أمتي الى يوم الدين، وهذا قول من لدن المولى عز وجل، فمن نعم الخالق سبحانه وتعالى علينا أن منحنا القدرة على تحقيق التوازن في حياتنا، بأن ندرك الحياة بالعقل ونعيشها لحظة بلحظة، حتى تستمر طاقتنا ونتواكب مع العصر.
ولعلي وأنا أتراجع عن التفكير في الزمن الجميل، لا أستطيع مغادرة هذا الزمان دون تعود ذاكرتي الى سيدة الغناء العربي وهي تشدو قصيدة «أغداً ألقاك» هذه الرائعة الشعرية للشاعر السوداني الهادي آدم، الذي عشق فيها غده وليس ماضيه بعكسنا تماماً، فتمنى مجيء الغد بسرعة وهو يعيش اليوم، ولكن من يعرف قصة حب هذا الشاعر يؤيده في شوقه لرؤية الغد الآن وليس بعد ساعة أو حتى دقيقة، فهو أحب زميلته في الكلية التي بادلته حبًّا بحب، ولكن لأسباب عدة رفض أهلها طلبه بالزواج منها، واستمر الحال هكذا فترة طويلة، حتى جاءه بشيرًا بموافقة الأهل والتراجع عن موقفهم القديم، ليسطر لنا هذه الأبيات الرائعة التي يتغنى فيها بشوقه وهيامه وقرب موعد الذهاب لأهل حبيبته ورؤيتها مجددا ليعيد الي قلبه نبضه والي جسده الحياة، ليقول «أغدًا ألقاك يا خوف فؤادي من غدٍ.. يالشوقي وإحتراقي في إنتظار الموعد.. آه كم أخشى غدي هذا وأرجوه اقترابًا.. كنت أستدنيه لكن هبته لما أهابا.. وأهلت فرحة القرب به حين استجابا.. هكذا أحتمل العمر نعيماً وعذابا.. مهجة حرة وقلباً مسه الشوق فذابا».
الى هنا يتحدث شاعرنا عن انتظاره الموعد الذي كان يتمناه طول عمره ولكنه يخافه الآن لما اقترب مجيئه، ثم ينتقل الى وصف الحياة مع الحبيبة ويا له من وصف خلاق: «أنت يا جنة حبي واشتياقي وجنوني.. أنت يا قبلة روحي وانطلاقي وشجوني..أغداً تشرق أضواؤك في ليل عيوني.. آه من فرحة أحلامي ومن خوف ظنوني.. كم أناديك وفي لحني حنين ودعاء.. آه رجائي أنا كم عذبني طول الرجاء..أنا لو لا أنت لم أحفل بمن راح وجاء..أنا أحيا لغد آن بأحلام اللقاء.. فأت أو لا تأتي أو فافعل بقلبي ما تشاء».
وتستمر الأحلام باللقاء حتى يصف محبوبته بالدنيا، ليس هذا فقط، فالدنيا بها كل الصفات الجميلة، فالدنيا كتاب وهي الفكر والدنيا ليال وهي العمر وهكذا تواصل أم كلثوم امتاعنا بقصيدة «أغداً ألقاك»: هذه الدنيا كتاب أنت فيه الفكر.. هذه الدنيا ليال أنت فيها العمر.. هذه الدنيا عيون أنت فيها البصر.. هذه الدنيا سماء أنت فيها القمر.. فارحم القلب الذي يصبو إليك.. فغداً تملكه بين يديك.. وغداً تأتلف الجنة أنهاراً وظلاّ.. وغداً ننسى فلا نأسى على ماضٍ تولّى.. وغداً نزهو فلا نعرف للغيب محلا.. وغداً للحاضر الزاهر نحيا ليس إلا.. قد يكون الغيب حلواً.. إنما الحاضر أحلى..«لقد عاد الشاعر الهادي أدم الى الحاضر ورأه الأحلى حتى وإن كان الغد حلوًا، ولكنه أبدا لم يعدْ الى الماضي، فكفاه ما مر من مرارات وعذابات الفراق والهجر القسري».
قبل الأخير..
لكم كانت سعادتي بالغة بحضور مناسبة جليلة بالقاهرة الساحرة عنوان الحضارة والثقافة، تلك المناسبة التي شهدت لقاءً ثرياً بين الشيخ الدكتور عبد الله بن أحمد آل خليفة رئيس مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات الاستراتيجية والدولية والطاقة، والكاتب الصحفي الأستاذ عبد المحسن سلامة رئيس مجلس إدارة مؤسسة الأهرام نقيب الصحفيين المصريين، وهو اللقاء الذي أكد أهمية تعزيز التعاون المشترك وأهمية تفعيل دور المراكز البحثية في مواجهة التحديات التي تواجه المنطقة العربية في الوقت الراهن، في ضوء وجود بعض الأطراف الإقليمية والدولية التي تهدد أمن المنطقة العربية.
سعادتي بالمشاركة في مثل هذا اللقاء الهام الذي شهد توقيع بروتوكول تعاون بين المركز البحريني ومركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية، سببها الكلمات المتبادلة بين سعادة الشيخ الدكتور عبد الله بن أحمد آل خليفة والكاتب عبد المحسن الذي يقود مؤسسة الأهرام العريقة التي يقدر كل بحريني وطني دورها الرائد كمنبر ثقافي وفكري وتنويري في تعزيز التواصل مع مملكة البحرين على كافة الأصعدة والمجالات، فـ «الأهرام» كما أكد الدكتور عبد الله بن أحمد آل خليفة هي ضمير الأمة.. ويتواصل اللقاء داخل «الأهرام» العريقة باستضافة مركز الأهرام حلقة نقاشية للدكتور عبدالله بن أحمد آل خليفة حول الكتاب الوثائقي «العدوان القطري على الديبل في 26 أبريل عام 1986»، حيث كان سعادته حريصا علي عرض التجاوزات والتدخلات القطرية في الشؤون الداخلية لمملكة البحرين ودول الخليج والمنطقة بما يقوض من الأمن والسلم المجتمعي في أمتنا العربية.
وتنبع أهمية مثل هذه اللقاءات والندوات لكونها ملتقى لاستعراض الرؤى المختلفة لقضايا الأمة العربية بما يستهدف التنسيق المتبادل وتبادل الأراء والمواقف في مختلف القضايا السياسية والفكرية والاستراتيجية لرسم رؤية مشتركة لكافة القضايا خصوصا في ظل التوافق وتطابق الرؤى بين مصر والبحرين.