بعد سنوات من العطاء المميز، غيّب الموت الكاتب والصحافي الزميل غسان الإمام، الذي أثرى بمقالاته صفحات «الشرق الأوسط»، طوال 3 عقود.
كان الراحل، الذي يعتبر موسوعة تختزن المعلومات والتجارب في دنيا الصحافة والسياسة والإعلام، قد عمل في مواقع صحافية كثيرة وفي أكثر من صحيفة وفي أكثر من بلد. وهو يكتب بلغة جميلة وأسلوب مميز يستمتع بهما القارئ ويحرص على المتابعة حتى النهاية، وكانت مقالاته على مدى تلك السنوات فريدة في نهجها زاخرة بمعرفته العميقة بالموضوعات التي كان يتابعها ويعرف عنها عن قرب، وعلى الأخص الموضوع السوري. كما كانت له زاوية بعنوان «أصداف ولآلئ»، يرسم فيها بالكلمات وبأسلوبه الناقد والساخر شخصية من الشخصيات التي كانت محور الحدث.
كان الراحل قد بدأ نشر هذه الزاوية في مجلة «الأسبوع العربي» التي كانت تصدر من باريس، ثم أخذ ينشرها في «الشرق الأوسط» قبل أن يتفرغ لمقاله في صفحات «الرأي» التي كان ينشر أسبوعياً كل ثلاثاء.
وكان للتجربة الطويلة لغسان الإمام في العمل الصحافي التي بدأها في دمشق قبل انتقاله إلى بيروت ثم إلى باريس، دور أساسي في ثراء المعلومات التي كان يغني بها مقالاته. فقد أتاحت له تلك التجربة الطويلة معرفة جيدة وعميقة بكبار السياسيين العرب في النصف الثاني من القرن العشرين. وفي موازاة الأسلوب الجاد والعميق الذي كان يشد القارئ إلى مقالات غسان الإمام، كان قلمه الساخر وسيلة أخرى لجذب القراء، كما كان بالغ الاهتمام والحرص على دقة المعلومات التي يكتب عنها.
ووصف عدد من كتاب «الشرق الأوسط»، غسان الإمام، بأنه «مثقف أصيل»، «وذاكرة تاريخية»، و«يبالغ في الدقة»، وأنه «ليس كاتباً تقليدياً ولا صحافياً عادياً ولا مثقفاً نمطياً، بل كان مزيجاً من عمق الكتابة وفضول الصحافة ونعرة المثقف الأصيل».
له أسلوب الخاص في الكتابة يتراوح بين الشعر والنثر، خاصة في زاويته الشهيرة (أصداف ولآلئ) التي كانت مدرسة خاصة لغسان في فن كتابة البروفايل، كما تميز المرحوم بمطالعاته وذكرياته الغنية عن التاريخ السياسي والإعلامي لسوريا ولبنان.
ويقول زملاؤه في قسم الرأي، بأنه كان آخر الكتاب الذين كانوا يرسلون مقالاتهم بخط أيديهم… لقد داهمت التكنولوجيا كل شيء، فلم يعد ممكناً أن يكتب الإنسان بقلمه، وكان لزاماً على كل الكتاب من جيله أن يتصارعوا مع التكنولوجيا. كان صعباً إقناع المرحوم بالتحول إلى العالم الجديد، وقد فعل ذلك بعد تردد طويل. وكان الراحل دقيقاً في كل مقالاته؛ كان يرسلها عبر الفاكس كل يوم أحد، بخط يده إلى أن تمكن في ما بعد من إرسالها إلكترونياً مطبوعة.
آخر مقال كتبه الراحل
سوريا الإيرانية: مستوطنات لإقامة دائمة
تشهد كبرى المدن مظاهرات شعبية ضد الغلاء والفساد. وتزدحم بالكثافة السكانية المتزايدة (مليون طفل رضيع كل سنة)، لأن «تخطيط الأسرة» في الدولة ممنوع بموجب العقيدة الدينية. ويموت المؤمنون في الصيف بالسرطانات وأمراض البيئة، نتيجة لِلُهاث الانبعاث الحراري في الصيف، والغبار والغيوم السامة الحاجبة للشمس في الشتاء.
وأدى ارتفاع درجة الحرارة. واستهلاك المياه المتزايد إلى جفاف البحيرات، والروافد، والأنهار، وغياب منظر الخضرة، مع ارتفاع السدود في الدول المجاورة. ولأن الناس لا يستطيعون شرب النفط الغزير بدلاً من المياه المتناقصة، فالدولة تستغله في تأمين الطاقة، لتشغيل المصانع النووية «للأغراض السلمية» كما يدعي النظام الحاكم. و«لإنتاج القنابل النووية» كما تعتقد غالبية السكان ذات الثقافة المحدودة الممزوجة بالدعاية المفروضة: «مقاومة. ممانعة. الموت لأميركا».
لا أتحدث عن إندونيسيا أكبر دولة إسلامية سنية. أو شقيقتها ماليزيا التي ارتفع معدل دخلها الوطني، بخلو مخطط التنمية من الطموح إلى دخول نادي السلاح النووي. وإنما أتحدث عن إيران الدولة الدينية التي تختلف مشروعات التنمية فيها، وفق التباين العنصري والمذهبي. فمدينة «مشهد» هي الأشد حرماناً، لأن شيعتها من أصول تركمانية، ومثلها المنطقة الكردية المجاورة لكردستان العراق، والمنطقة العربية الممتدة على طول الضفة الشرقية للخليج، وكلها تحصل على مخصصات أقل مما تحصل عليه منطقة خراسان الفارسية.
الإفقار الاجتماعي مقبول لدى «آيات» الدولة، لأنه يعرقل وعي الشباب في المناطق الريفية التي ما زالت الخزان البشري، لتغذية قوة الـ«باسيج» الحرس الاحتياطي الذي يستدعى لقمع قوى الشارع في المدن، عندما يتحول التذمر من الغلاء والفساد إلى تمرد سياسي على النظام، كما هو حادث اليوم في مدينتي مشهد وكرمنشاه…
أما «الحرس الثوري» فقد بات يتغذى بموارد مشروعات اقتصادية يديرها، إضافة للموارد التي يخصصها النظام له، لتمويل مشروع الهيمنة الإيرانية على المشرق العربي، والخليج، واليمن، بالقوة المسلحة، أو الدبلوماسية، أو الاغتيال السياسي، كما حدث للرئيس اليمني السابق علي عبد الله صالح.
غير أن سوريا تتمتع بعناية إيرانية فائقة، منذ أن حصل «فيلق القدس» على «ترخيص» من رئيس النظام بشار للتدخل المسلح في سوريا. فبات هو ونظامه الطائفي خطا أحمر لدى خامنئي، والرئيس حسن فريدون روحاني، ووزير الخارجية جواد ظريف الذي يتستر في أروقة الأمم المتحدة على مشروع الهيمنة بابتسامة دبلوماسية ماكرة.
طرأ تغيير استراتيجي على مشروع التدخل الإيراني في سوريا، فتحول في العام الماضي إلى مشروع إقامة دائمة، واحتلال عبر إنشاء قواعد عسكرية للحرس الثوري، في مناطق بعيدة عن التجمعات السكانية السورية في المدن، لإخفاء ظاهرة الاستيطان. ولردع الوجود الأميركي العسكري في حوض الفرات، والمناطق الكردية في الشمال والشمال الشرقي، ولإحباط أي محاولة تدخل تركية. وتقوم حالياً قوات إيرانية بجس النبض، لاجتياح محافظة إدلب المجاورة لتركيا، وذلك كقوات نظامية سورية.
ويقضي المشروع الإيراني بعرقلة عودة اللاجئين والنازحين إلى سوريا من لبنان (مليون سوري)، والأردن (1.5 مليون)، وتركيا (3 ملايين)، ومليون من ألمانيا، ومليون آخرون هاجروا إلى أوروبا، وأميركا الجنوبية، وكندا، والولايات المتحدة. والعمل على إقناع الأمم المتحدة والدول الغربية بتوطين النازحين السوريين حيث هم، خصوصاً في لبنان، والأردن، وتركيا.
وتشكل سوريا منطقة إغراء جغرافية بديلة للتخمة السكانية في إيران. فهناك مناطق زراعية مروية بالأنهار (الفرات، العاصي، بردى). وأخرى بمياه الأمطار (الساحل، إدلب، القلمون، الجولان، وربما سهل حوران في الجنوب بين دمشق والأردن). وتم احتلال معظم هذه المناطق وإجلاء المدنيين إلى محافظة إدلب (التي بدأت ملامح حملة نظامية لاستعادتها من التنظيمات السنية المتزمتة). وهناك إغراء كبير لإيران لإقامة مستوطنات سكانية شيعية في سهل الغاب، قبالة مدينتي حماة وحمص (السنيتين).
كذلك، تم إنشاء معابر على الحدود السورية – العراقية، لتسهيل عبور الميليشيات الشيعية إلى سوريا، القادمة من إيران، وأفغانستان، والعراق. أما الحدود مع لبنان، فتكاد تتلاشى باحتلال قوات «حزب الله» لمعظم منطقة القلمون الممتدة من وسط سوريا إلى الجولان، وإجلاء معظم سكانها التقليديين من السنة إلى إدلب. وتسهيل إجراءات مغادرة سوريا إلى المهاجر الأميركية.
ويُعنى المشروع الإيراني في سوريا، وفق مصادر «فيلق القدس»، بتسهيل حركة الانتقال بين إيران والمشرق العربي، بإنشاء خطوط للسكك الحديدية، ومطارات متوسطة للنقل الداخلي، وإلغاء فيزا العبور، تحت شعار إنشاء دولة إسلامية كبرى تضم إيران، والعراق، وسوريا. وإغراء الأردن ولبنان بالانضمام إليها. والهدف قطع الطريق على دول الخليج (السنية) للتدخل في سوريا، بعد إحباط تمويلها للتنظيمات الدينية التي خسرت فرصة إسقاط النظام، بتقاعسها عن القتال كقوة موحدة.
لا شك أن بشار في رفضه مغادرة السلطة أوقع سوريا في حرب أهلية. فقضى على القوى الديمقراطية، وأحل محلها القوى «الداعشية والقاعدية». الفراغ السياسي استدعى تدخل القوى الإقليمية والدولية. فنشأ صراع دولي على استقطاب التنظيمات السياسية والمسلحة، كمرتزقة مستأجرة للاقتتال في الداخل السوري.
وهكذا، بات بشار فصيلاً من هذه القوى المستأجرة، ليقاتل بما تبقى من جيشه لصالح روسيا حيناً. وإيران حيناً آخر، ريثما يحين أوان ترحيله عندما تتوصل أميركا وروسيا إلى حل لإنهاء المأساة. فلا مكان لبشار في التسوية السياسية الدائمة، لتورطه مع إيران وروسيا في إبادة شعبه.
هل أمام المشروع الإيراني فرصة حقيقية للنجاح، في تحويل مشروع الهيمنة إلى إمبراطورية إسلامية في المشرق العربي، في ظلال الهلال الشيعي؟ لا يمكن قيام دولة بلا شعب. هل تستطيع إيران مواصلة تجنيد الشيعة العراقية؟ هناك الآن نفور شيعي هائل في الجنوب من التدخل الإيراني المتمادي في شؤون العراق. وليس هناك شيعة في سوريا، بما يكفي، لإخضاع الغالبية السنية.
أما في لبنان فيتعين على إيران إقناع موارنة «حزب الله» (تيار عون) بتشكيل أقلية مسيحية مع الأقلية الآشورية والكلدانية لتعيشا كأهل ذمة داخل إطار إمبراطورية كاريكاتيرية.
علي خامنئي شاه وخميني في آن واحد. ففي محاولته استقطاب شيعة الشرق الأوسط، فهو يكرر محاولة الشاه المخلوع في إنشاء إمبراطورية شاهنشاهية تمتد من بحر الخليج إلى البحر المتوسط. لكن مشروعه يبدو حلماً. فهو بحاجة إلى مال قارون لا تملكه دولة مفلسة يطالبها اليوم شعبها الجائع بالتخلي عن أحلام الهيمنة، وعن إنشاء إمبراطورية كرتونية فوق رمال متحركة.