فوزية المرعي صوت الأدب الذي يتحدى الظلام بالخيال

عبدالكريم البليخ
الكتب عوالم أكبر من القيود التي يفرضها المجتمع والواقع.

واجه العديد من الكتاب السوريين ويلات الحرب والمتطرفين، بعضهم فقد حياته في انتظار بصيص الحرية، وبعضهم تفرقت به السبل بعيدا، أهوال مؤلمة عاشها هؤلاء، ولا بد من التذكير بهم وبتجاربهم، لا من الناحية الجمالية للأدب فحسب، بل ومن ناحية قدرته على أن يكون فعل مقاومة ولو بالخيال كما نجده عند الكاتبة والشاعرة السورية الراحلة فوزية المرعي.

الأدب ليس مجرد كلمات تُكتب، بل هو نبض يتردد في قلوب من يعيشونه، وصوت يقاوم النسيان. حين نقرأ أعمال الكاتبة والشاعرة السورية فوزية المرعي، ندرك أننا أمام صوت استثنائي، عاش الأدب بكل تفاصيله، وجعل منه دربا للمقاومة والتمرد على القهر الاجتماعي والسياسي.

رحلة الكاتبة لم تكن سهلة، بل كانت حافلة بالصعوبات والتحديات، لكنها اختارت أن تُضيء القناديل في زمن الظلام، وأن تكون الكلمة سلاحها في وجه القهر والتطرف والاضطهاد. كتبت عن الحب، وعن الحنين، وعن المرأة التي واجهت مجتمعا ذكوريا، وكتبت عن الذاكرة التي حاول البعض طمسها، لكنها بقيت حيّة في حروفها.

الليل ملاذ للإبداع

وُلدت فوزية المرعي عام 1948 في مدينة الرّقة، تلك المدينة التي ارتبطت في أذهان الكثيرين بنهر الفرات وبحكايات الأدباء والمفكرين. لم يكن طريقها نحو الأدب مفروشا بالورود، فقد نشأت في أسرة بسيطة، لم تكن القراءة والكتابة جزءا من حياتها اليومية. لكن موهبتها فاضت منذ صغرها، وبدأت تظهر في شكل هذيانات شعرية تهمس بها لنفسها، أو تسجلها في ذاكرتها خوفا من أن يُنظر إليها كحالة غريبة.

لم تحظَ المرعي بفرصة التعليم الجامعي، لكنها درست حتى المرحلة الثانوية، وكان شغفها بالقراءة هو معلمها الأول. وجدت في الكتب عوالم واسعة، عوالم أكبر من القيود التي فرضها عليها المجتمع. وبدأت الكتابة فعليا في سن الثامنة والعشرين، وهو عمر اعتبرته متأخرا، لكنها سرعان ما أدركت أن الإبداع لا يخضع لحسابات الزمن.

كانت البداية خجولة، لكنها سرعان ما وجدت الدعم من الأديب السوري عبدالسلام العجيلي، الذي شجعها على الاستمرار، وأقنعها بأن الموهبة لا تعترف بالعمر، بل تحتاج فقط إلى الصقل والإصرار.

كانت المرعي عاشقة لليل، تجد في سكونه ملاذا للإبداع. كتبت في الساعات المتأخرة، حين ينام الجميع، وكانت ترى في القمر والنجوم مرآة تعكس أفكارها وأحلامها. في أحد لقاءاتها، تقول “عندما ينام الجميع، أبدأ الكتابة. أتأمل القمر، وأغرق في فضاء النجوم. لا أميل إلى الكتابة عن الواقع كثيرا، بل أمتطي صهوة الخيال دوما. في كتاباتي، أقطن الأكواخ، وأرسم الزهرة الواحدة كأنها حديقة، وأخوض في بحر من الأفكار. الكاتب الذي لا يمتلك خيالا خصبا، لا يستطيع كتابة حتى قصة صغيرة، فالخيال هو مرآة الأديب والشاعر”.

وهكذا، كان الخيال عندها هو نافذتها إلى الحرية، والهروب من واقع محكوم بالقيود.

شهدت فوزية واحدة من أقسى الفترات التي مرت على الرّقة، عندما سيطر تنظيم داعش على المدينة، وفرض قوانينه المتطرفة، التي حرّمت كل أشكال الإبداع والفكر. كانت هذه المرحلة مؤلمة جدا بالنسبة إليها، فقد حُرقت مكتبتها، التي جمعت فيها كتبها على مدى عقود، كما تم إغلاق منتدى فوزية المرعي، الذي أسسته ليكون منبرا للأدب والنقاش الحر.

تتحدث المرعي عن تلك الأيام بحزن بالغ، تقول “رأيت كيف أُحرقت الكتب، كيف مُسحت ذاكرة مدينتنا الثقافية، وكيف أصبح التفكير جريمة. لقد صادر داعش منزلي، ومنعني من الكتابة، لكنني لم أتوقف. كنت أخبئ كتاباتي على كرت ذاكرة صغير، كنت أكتب حتى لو لم أكن قادرة على النشر، لأن الكلمة هي سلاحي الوحيد.”

من رحم هذه التجربة القاسية، أصدرت كتابها “الكتابة في زمن داعش.. مواجهة الظلام بالكلمة”. كان هذا الكتاب شهادة حيّة على كيف يمكن للأدب أن يكون وسيلة لمواجهة الطغيان.

لم تقتصر فوزية المرعي على جنس أدبي واحد، بل تنوعت أعمالها بين الشعر والرواية والقصة القصيرة. كتبت بروح الشاعرة، حتى عندما خاضت مجال السرد. من أبرز أعمالها في الشعر: “قناديل الوجود” (جزآن)، “رهدن الصمت”، “فراشات النار”. أما في  القصة القصيرة فنذكر من مجموعاتها “بحيرة الشمع”، “خلف ذاكرة الأبصار”، “الهباري”، “الرشفات”، “هديل على مقام النوى”. كما كتبت الرواية التي أصدرت فيها “غريبة بين الشاهدة والقبر”، “قارب عشتار من توتول إلى ماري”.

ولكنها تقر بأن كتاب “قارب عشتار” الأقرب إلى قلبها، إذ وصفته بأنه ابنها، لأنه لاقى صدى واسعا بين القراء.

اليوم ونحن نقرأ أعمال فوزية المرعي ندرك أنها لم تكن مجرد كاتبة بل كانت روحا تنبض بالأدب مؤمنة بالحقيقة

روح تنبض بالأدب

 لم تكن فوزية كاتبة فقط، بل كانت ناشطة في مجال دعم المرأة، خاصة المرأة الريفية المهمّشة. كانت تؤمن بأن المرأة يجب أن تكون حرة، وألا تخضع للقيود الاجتماعية. في أحد مقالاتها، كتبت “المرأة تُولد في مجتمعنا على سرير الاضطهاد. تحكم بقيود الأب، ثم الزوج، ثم المجتمع. لكنني تمردت، لأنني آمنت أن الحرية ليست كلمة تقال، بل حق ينتزع”.

أسست أول صالون أدبي نسائي في المنطقة الشرقية من سوريا، لكنها لم تستطع الاستمرار بسبب التهديدات التي تلقتها من الجماعات المتشددة.

في عام 2024، رحلت فوزية المرعي عن عالمنا، لكنها تركت إرثا أدبيا لا يُنسى. لم تكن كاتبة عادية، بل كانت رمزا للمقاومة، وللإبداع الذي يواجه الظلام.

قبل أيام من رحيلها، كتبت على صفحتها في فيسبوك “حتى البنفسج ساجٍ يخونُ عطرَ وصالي، ربّاهُ يا وهج توقي لغيرك لا لن أبالي لا البيتُ أصبحَ بيتي ولا الديار دياري”.

ربّما شعرت بأن الرحيل قريب، لكنها كانت تعرف أن الكلمات التي كتبتها ستظل حيّة، تتنقل بين القرّاء، وتُخلد اسمها في ذاكرة الأدب السوري.

اليوم، ونحن نقرأ أعمال فوزية المرعي، ندرك أنها لم تكن مجرد كاتبة، بل كانت روحا تنبض بالأدب، وصوتا لا يخاف من قول الحقيقة. تركت أثرا في كل من قرأ كلماتها، وعلمتنا أن الأدب ليس رفاهية، بل هو مقاومة، وهو سلاح نبيل في وجه الظلم.

رحلت فوزية، لكن قناديلها ما زالت تضيء الطريق لكل من يبحث عن الكلمة الصادقة، ولكل من يريد أن يقاوم الظلام بالنور.

صحيفة العرب