كم مرة بدأتم مطالعة كتاب، ثم ما لبثتم أن طرحتموه جانبًا تحت وطأة الشعور بالإحباط، وبأنكم لستم مضطرين لمطالعته حتى النهاية؟
أعترف لكم بأنني ممن يعانون من هذا الإحباط، وأمضي دائما في تأنيب نفسي: «فلو واصلت القراءة ومنحت الكاتب فرصة، لشعرت بالتشويق واستمتعت بقراءة رائعة».
ولكن هل هناك ضير في التخلي عن الكتاب بعد قراءة بضع من صفحاته أو فصوله؟
إن كنت أقرأ رواية لكاتب من كتّابي المفضلين، ممن اعتدت على أن تأسرني رواياتهم، فإنني على الأغلب أواصل القراءة حتى النهاية، حتى لو لم توفر لي روايته المتعة المنشودة، وأظل أقلب الصفحة تلو الأخرى على أمل أن يسترد الكاتب ألقه وأن يلتقط الكتاب أنفاسه.
أما إذا كان الروائي غير معروف بالنسبة لي، فيحتاج إلى أن يشدني على الأقل في الفصول الثلاثة الأولى، وإلا سينتهي بي الأمر إلى أن أطرح الكتاب جانبًا!
بالطبع هناك أسباب مختلفة للقراءة؛ بعض الكتب يستوجب علينا قراءتها للمدرسة أو الجامعة أو لإتمام مقررات أكاديمية، وتحتاج بالطبع إلى دراسة معمقة، بغض النظر عن اللحظات المملة التي نعانيها خلال قراءتها. وقد يضطر الحكام في مسابقات الكتب لقراءة أكثر من مائة كتاب، لاختيار الفائز، ويقرأ الوكلاء والمحررون الأدبيون الكتب بطريقة متميزة، إذ يستثمرون خبراتهم للتعرف على مكامن القوة في الكتب التي ستوزع على آلاف القرّاء، ويبحثون دائمًا عن هيكلية ومعمارية روائية جديدة تأسرهم بسرعة خاطفة، ونجدهم يرفضون الكتب غير المشوقة بسرعة ودون تردد.
يدرك الكتّاب البارعون ذلك تمامًا وكذلك الناشرون، يعرفون مدى أهمية تلك الصفحات الأولى، بل العبارات الافتتاحية، فلو قلبنا كتبنا المفضلة ونظرنا في عباراتها الخالدة ومدى جاذبيتها لأدركنا لماذا يتميز الكتّاب ورواة القصص العظام عن غيرهم.
ربما أفضل استهلال لما يتردد في خلدي من عبارات آسرة، ما ورد في قصص التراث الإنساني العظيم، وتأتي حكايات ألف ليلة وليلة في مقدمة حكايات وقصص التراث العالمي، لذا سأبدأ بعبارة عجيبة منها، ثم أعرج على غيرها من الأعمال العظيمة:
ألف ليلة وليلة
تقول شهرزاد على لسان إحدى الشخصيات: «حكايتي حكاية عجيبة لو كتبت بالإبر على آماق البصر لكانت عبرة لمن اعتبر».
رواية 1984 – جورج أورويل
«لقد كان يوما باردًا مشرقًا من أيام أبريل، وكانت الساعات ترتجف خوفًا».
آنا كارنينا – ليو تولستوي
«العائلات السعيدة تتشابه، لكن لكل عائلة تعيسة مذهبها الخاص في تعاستها».
مائة عام من العزلة – غابرييل غارسيا ماركيز
«بعد سنوات عدة، وأمام فصيل الإعدام رميًا بالرصاص، يتذكر العقيد أوريليانو بوينديا، ابن خوسيه أركاديو، ذلك اليوم البعيد، بعد الظهيرة، عندما اصطحبه والده لاكتشاف الثلج».
موسم الهجرة إلى الشمال – الطيب صالح
«عدت إلى أهلي يا سادتي بعد غيبة طويلة، سبعة أعوام على وجه التحديد، كنت خلالها أتعلم في أوروبا».
أشعر أنني محظوظة للغاية لأن عملي اليومي لدى مؤسسة الإمارات للآداب يتضمن الاطلاع على عدد كبير من الكتب، ويوفر لي خيارات رائعة. وقد فرض علي ذلك في غير مناسبة مطالعة كتب لا أرغب في مطالعتها، لأنه يجب علينا مناقشتها في برنامجنا الإذاعي، «حديث الكتب»، ولا بد لي من مطالعتها كاملة، فلا يمكنك تناول كتاب وعرضه على المستمعين، دون الإلمام بكل ما جاء فيه؛ وكلما قرأت أكثر، تشكلت لديك أفكار وآراء أكثر، وأصبح لديك ذائقة متميزة لاستشراف أنماط أدبية متنوعة.
في بعض الأحيان، أحرص على أن أعتمد على تزكية الأصدقاء، أو رأي أحد المراجعين للكتب، من الذين أحترم رأيهم، وأشرع في قراءة الكتاب على أمل بأن تتفجر عبقرية الكاتب الموعودة!
لكن مطالعة الكتاب تغدو أحيانًا مثل الخوض في الوحل.. القضية ببساطة أننا نشعر أحيانًا أن الكتاب ليس لنا؛ فعدم رغبتنا في إكمال الكتاب أو عدم استطاعتنا لا تعني أنه كتاب «سيئ».
فالبهجة الغامرة والمتعة الكبيرة اللتان يوفرهما الأدب تنبعان من طبيعته الذاتية المحضة، وكل قارئ له كامل الحق بأن يستجيب للكتاب وللمؤلف كما يشتهي، مع إدراكه التام بأن للآخرين استجابات متفاوتة، ولهم وجهات نظر متباينة، ولا شك بأنها صحيحة، لأنها نابعة من علاقاتهم المختلفة مع العمل الأدبي، وربما يعد احتضان وجهات النظر المتقابلة والمختلفة، أكثر ما يضفي على مهرجان طيران الإمارات للآداب حيوية، وديناميكية، وينشر فيه أجواء ثقافية ثرية.
ما من شك أن الكتاب المناسب في الوقت المناسب، دور كبير في إحداث التغيير البناء في حياتنا، لكن لو وقع بين يدي كتاب رائع في لحظة غير مواتية، يجعلني أشعر بعزلة الروح، ولا ينقلني لعالمه المثير، مهما بذلت للترحال في صفحاته، فلا أكمل رحلتي معه!
عندما نمنح كتابًا جديدًا فرصة جيدة، ونغدق عليه من رجائنا وآمالنا، ويخفق في أن يقدم لنا ما نتطلع إليه فالأولى، ربما، أن نضعه جانباً، أو نقدمه لمن يجد ضالته فيه!