تعرض مفهوم العلمانية إلى لغط كثير، وآية ذلك أن بعض الكارهين لها قد ربط بينها وبين الإلحاد. لكن العلمانية أبعد ما تكون عن الإلحاد كما سأبين؛ فالعلمانية طريقة في النظر إلى مسألة الحكم، وليس موقفاً من الإيمان الديني.
فما معنى العلمانية بالأصل؟
أود أن أشير في البداية إلى أن الكتاب العرب قد اختلفوا في نطق هذه الكلمة، وبالتالي في كتابتها. فمنهم من كتبها بفتح العين ومن كتبها بكسرها.
فقد ردّ الفيلسوف زكي نجيب محمود في مقال بعنوان «عين فتحة عا»، العلمانية إلى العالم وليس إلى العِلم. بينما كتب أحمد حاطوم «العلمانية بكسر العين لا بفتحها»، أي راداً العلمانية إلى العِلم.
ورأى عزيز العظمة العلمانية من منظور مختلف: «وليس تاريخ العبارة هو وحده المتسم بشيء من الغموض، فمن غير الواضح أيضاً كيف تم اشتقاقها، وهل كان الاشتقاق من العلم علمانية بكسر العين، أم من العالم، العلمانية بفتح العين بناء على اشتقاق غير سليم، ولكن الأرجح أن الاشتقاق الأول هو الأولى فهو ذو أساس ثابت في حاضر اللسان العربي المتحقق وهو مندرج في قاعدة صرفية صريحة».
إن الاختلاف حول نطق المصطلح ليس شكلياً، لا سيما حين يؤدي نطقها بكسر العين أو بفتحها معنيين مختلفين. وعندها فإن إيجاد العلاقة بين العَلمانية والعِلمانية يحتاج إلى بحث وليس الأمر من قبيل تحصيل حاصل.
والثابت أن الكلمة في اللغة الإنكليزية ليست هي العلم Science بل Scular العالم الدنيوي وبالتالي فـScientism وSecularism نزعتان تؤديان معنيين مختلفين، فإذا ما ترجمنا المصطلحين بمصطلح واحد هو العلمانية، فإن الحدود تضيع بين هاتين النزعتين.
وعندها يجب أن نعود إلى سياق النص للوقوف على المعنى المقصود (بالعَلمانية). وحتى لو كانت العلمانية ترجمة لكلمة Laicism التي تعني عامة الجمهور المتميز عن الايكروس فإنها لا تفيد معنى العِلمانية، أي ليست مشتقة من العِلْم.
ولكن من أين جاءت كلمة العَلمانية بفتح العين لا سيما أن اثنين من جهابذة اللغة هما زكي نجيب محمود والعلايلي، استخدماها بفتح العين.
لو رجعنا إلى ما قاله العظمة، فسنجده يرى أن اشتقاق العلمانية غير سليم وبالتالي فهو يخطئ العلايلي. وما أدراك ما العلايلي.
ولكن اشتقاق الكلمة عَلمانية لم يكن من العالم، بل من العَلْم بمعنى العالم.
ولقد جاء في قطر المحيط لبطرس البستاني: العَلْم = العالم. العَلماني للعامي الذي ليس بإكريليكي.
كما جاء في المعجم الرائد العَلم والعالم. أما المعجم الوسيط الصادر على مجمع اللغة العربية في القاهرة، فقد جاء العَلماني نسبة إلى العَلْم بمعنى العالم.
وقد جاء مصطلح العَلمانية أثناء الصراع بين أنصار الحكم المدني الذي ينتجه العقد الاجتماعي وأنصار الكنيسة التي كانت تحكم باسم الدين. وتحول المفهوم إلى موقف من الحكم وطبيعته وليس موقف من الدين ومعتقده.
وبلغة معاصرة أكثر نقول: العَلمانية ليست ضد الدين بل ضد فكرة الحاكمية لله التي يطرحها الإسلاميون مقتفين أثر سيد قطب الذي أخذ مفهوم الحاكمية لله من الباكستاني أبو الأعلى المودودي.
إذا كان الأمر كذلك، وهو كذلك، فإن الشيخ الأفغاني هو عَلماني، أليس هو القائل بأن الأمة تختار حاكمها. وقس على ذلك الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية الأسبق الذي قال في كتابه (الإسلام بين العلم والمدنية) بقلب السلطة الدينية، أي لا سلطة سياسية دينية في الإسلام، والحاكم مدني من جميع الوجوه.
واستمرت هذه النظرة عند الشيخ خالد محمد خالد في كتابه (مواطنون لا رعايا). وهذا يعني بأن جوهر العلمانية موجود في خطاب الإصلاح الديني الإسلامي، وإن كان المصلحون الدينيون لم يستعملوا مصطلح العلمانية.
وليس هذا فحسب، بل إن أحداً من دعاة الحكم العلماني، لم يقل أبداً بأن العلمانية ضد الدين، بل على العكس. العلمانية تدافع عن حق الناس بالتدين، وممارسة شعائرهم الدينية. فالترابط ليس بين العَلمانية والإلحاد، بل الترابط بين العَلمانية والتسامح.
بقي أن نقول: إن تحرير الإسلام من التوظيف السياسي ومن المصالح التي ترتدي عباءة الدين هو جوهر العَلمانية. وإذا كان البعض يتكدر من مصطلح العلمانية، ويفضل مصطلح المدنية، فليكن. وعندها سيكون مصطلحا العَلمانية والمدنية مترادفين، لأن جوهرهما واحد.