في الستينات كانت عناوين الصحف لا تزال يكتبها خطاط باليد، أي ليس بطبع الأحرف المختلفة المقاييس. وكان في «النهار» خطاط لا يكفّ عن العمل وعن التدخين، وعن الحديث في أخبار كرة القدم وأبطالها والأهداف المسجلة، ما بين «ريال مدريد» و«فريق البرازيل». ولم يكن أي منا يعرف شيئا عن أي من تلك الأسماء، ولا كان الاهتمام بالرياضة شائعاً. ولا كانت هناك قنوات تلفزيونية تنقل المباريات، ولا كان هناك «جمهور» ومشجعون.
لكن كل ذلك لم يحل دون أن يشرك «ميشال الغفري» من مرّ به في حديث عن أداء «زاغالو»، و«بيكنباور»، و«بيليه». ومع أنني لا أعرف شيئاً عن الكرة وأبطالها، ولم أكن حتى ذلك الوقت قد شاهدت مباراة واحدة، ولا الغفري طبعاً، فقد بقيت تلك الأسماء في ذاكرتي. ولم يعش الغفري، رحمه الله، ليشهد كيف صارت الكرة في لبنان هواية الناس جميعاً، وأعلام الفرق تُرفع على الشرفات.
هذا الأسبوع فقد عالم الكرة «زاغالو» عن 92 عاماً في البرازيل، و«بيكنباور» في ألمانيا عن 78 عاماً. وحملت القنوات النبأين في أنحاء العالم «بالحرف العريض»، وليس «بالخط» العريض كما في «زمن الغفري» وسيجارته المشتعلة ليل نهار، مثل صيدليات الطوارئ.
كان «الغفري» فلسطينياً حاد اللهجة، وكان «قومياً سورياً حاد الخطاب، وكان – بعد زاغارو وبيكنباور – يؤمن أن المستقبل لاثنين: تحقيق وحدة (الهلال الخصيب)، والثاني تطور مهنة الخطاطين ودوامها: سوف تطبع النصوص بالأحرف، أما العناوين، فهي فن لا يجيده سوى الخطاطين». وبهذه القناعة، وفي مثل حماسة زاغارو وبيكنباور، قرر أن يعلّم ابنه البكر فن الخطوط.
وجاء الابن مرة للعمل مع الأب في مشروع «المنار» التي أصدرها رياض نجيب الريس، من لندن، وكان رياض طليعياً في أمور التكنولوجيا، وعنده رأيت «الفاكس» للمرة الأولى. وبعد وصول الغفري الأب، والغفري جونيور، بنحو شهرين، شهد عالم الطباعة حدثاً مهماً: العناوين، مثل النصوص، تطبع على الآلة. وفي سرعة الصوت، وفي دقة الإبرة، وفي جميع الأنواع. ولم يعد للرجلين عمل في لندن. سوف يخسران المهنة إلى الأبد، لكن رحلة لندن كانت جائزة رائعة: شهران في بلاد كرة القدم. شهران بين مباريات وأُخر. ومثل الأب انتقل الابن إلى تأييد «تشيلسي»، أو هكذا أتذكر. وأعتقد أن عمل الابن بوصية الأب يعزي النفس بوحدة الهلال الخصيب.
فقيدا الكرة و«الخطاطون»