مراكز الثقافة في الأحياء… ضرورة حضارية لا ترف

عمر غباش

في الوقت الذي تواصل فيه دبي ترسيخ مكانتها مدينة عالمية متقدمة، يبرز تساؤل مهم: لماذا لا نجد مراكز ثقافية صغيرة منتشرة في أحيائنا كما في المدن الكبرى حول العالم؟

إن نشر الثقافة والفنون لا ينبغي أن يقتصر على الفعاليات المركزية أو المهرجانات الموسمية، بل يجب أن يكون جزءاً من الحياة اليومية للسكان. فالمراكز الثقافية في الأحياء تمثل متنفساً إبداعياً ومساحة تعليمية واجتماعية لكل فئات المجتمع، وتدعم الهوية والانتماء والتلاحم المجتمعي.

تجارب عالمية كثيرة تؤكد نجاح هذا التوجه. ففي نيويورك في الولايات المتحدة الأمريكية، يوجد أكثر من 400 مركز ثقافي موزعة على الأحياء، تقدم ورش عمل، ومسرحاً مجتمعياً، ودروساً فنية بأسعار رمزية. وفي باريس في فرنسا، تنتشر «بيوت الثقافة» منذ عقود لتكون مراكز إشعاع معرفي. أما ملبورن – أستراليا، فقد تبنت نموذج المراكز المجتمعية التي تديرها البلديات، لتقدم برامج تعليمية مستمرة للأطفال والكبار.

في دبي، حيث التنوع السكاني والثراء الثقافي، يمكن لهذه المراكز أن تلعب دوراً محورياً في دعم الفنانين الشباب، وتعزيز الحوار بين الثقافات، وتنمية الذائقة الفنية لدى الأجيال الجديدة. ويمكن تصور نموذج مثالي لذلك مثل «البيت الثقافي» أو «دار الثقافة»، يضم مكتبة، وورشاً فنية، وقاعة عروض متعددة الأغراض، ومقهى ثقافياً، واستوديو رقمياً لتدريب الشباب على صناعة المحتوى.

لكن الأهم في هذا الموضوع، أن لهذه المراكز دوراً كبيراً في تحسين الحالة الاجتماعية والاقتصادية. فمن خلالها يمكن تقديم دورات تدريبية مجانية أو مدعومة في مجالات مثل التصميم، التصوير، المسرح، السينما، الكتابة، الموسيقى، الحرف اليدوية، وريادة الأعمال الثقافية. هذه المهارات قد تتحول إلى مصدر دخل حقيقي، وتخلق فرصاً للمشاريع الصغيرة والمتوسطة داخل مجتمع الأحياء.

كما يمكن للمتطوعين من الفنانين والأكاديميين والمثقفين أن يسهموا في تنشيط هذه المراكز عبر تقديم ورش ودورات تطوعية. ويمكن للتكنولوجيا أن تلعب دوراً محورياً أيضاً، من خلال تقديم محتوى ثقافي رقمي، وتنظيم فعاليات افتراضية، وربط الأحياء بمراكز ثقافية أخرى داخل الدولة وخارجها.

إن الاستثمار في مراكز الثقافة في الأحياء ليس عبئاً بل فرصة لتعزيز جودة الحياة، ودعم التنمية المستدامة، وبناء مجتمع أكثر وعياً وتماسكاً. إنها خطوة بسيطة، ولكن أثرها طويل المدى وعميق. ويمكن أن يكون للمؤسسات الثقافية الرسمية والشركات الخاصة دور بارز في إيجاد هذه المراكز الثقافية في الأحياء ودعمها معنوياً ومادياً.
جريدة البيان