كلما أوغلنا في قراءة الأشياء الجميلة في الماضي أو الذاكرة، تأتي الصور في غاية الروعة والتأثير، سواء كان ذلك في الحالة الخاصة والذاكرة الخاصة، أو ذاكرة المكان والزمان، واستدعاء الجميل العالق في الذهن والمنغمس في الأعماق، يأتي عندما تتوحد مع نفسك ويعمك الهدوء والسكون والسكينة، أو عند العودة إلى الأمكنة ذات الذكريات لديك، فإن موجات من التداعي والتحليق نحو التذكر واستدعاء المواقف والحوادث والمفارقات الغريبة إلى القلب، وخاصة في الطفولة، حيث وحدها الخزان العميق الساكن في الجوف، ووحدها يمكنها أن تنزح الحكايات والصور الصغيرة الراسخة في الأعماق ولم تغادر القلب والنفس، حتى الصور المادية أو المؤثرات الاجتماعية والثقافية، تأتي مثل حلم جميل، في تلك اللحظات الحالمة والمحلقة إلى الماضي وأحداثه القديمة.. إنه صوت الأرض المداهم لرحلة العمر والمقتحم في تلك الاستراحات الصغيرة التي يتوقف فيها الإنسان ليقلب صفحات ماضية أو ماضي المكان الذي ولد وعاش فيه طفولته وعرف محيطة، سواء بسعادة وفرح أو تعب وكد وعناء.. صوت الأرض حكاية يتلوها الناس بعد زمن طويل من الكفاح أو مجاهدة الحياة، كلنا يعلم أن أجمل أصوات الأرض هي معاول العاملين وفؤوس الفلاحين ومجاديف السفن والزوارق التي تبحر بعمال البحر كل يوم، لتعانق الرزق الحلال.
صوت الأرض هو حفيف الأشجار وهي تقاوم الريح، صوت الأرض هو حداء الصحراوي وهو يعبر سعير الرمل، صوت البحار وهو يجذب الشباك.. كل شيء جميل ورائع في الطبيعة التي تمتاز فيها أرضك ووطنك، هو صوت الأرض.. يتحدث المختصون في الموسيقى عن بعض فناني الجزيرة العربية ويشبهون أصواتهم واختياراتهم لأعمالهم الفنية/ الموسيقية والغنائية، المتعمقة في تراثهم وحياة ناسهم وكلمات أشعارهم والقصيد النابع من الأرض والتاريخ، بل إن أصوات أولئك الفنانين، فعلاً تأخذ خصوصية ذلك المكان، في الكلمة واللحن والأداء.. ومثال على ذلك، عندما نستمع إلى الفنان الكبير اليمني أيوب طارش، وروعة ما قدمة من فن مبدع وأداء عذب وجميل، يشبه صوت الأرض، حنجرة ذهبية تأتي من حقول اليمن وجباله، سهوله ووديانه، روعة وعظمة في نقل الصورة الحقيقية لصوت الأرض، يستحق وبقوة أن يقال عنه إنه صوت الأرض، كم من تداعٍ وشجون يبعثها في المستمع هذا الفنان الجميل! أيضاً يأتي فنان آخر وصفه عدد من المختصين في فنون الجزيرة العربية، بأنه صوت الأرض، الفنان طلال مداح، نعم هو صاحب الصوت البديع والرخيم، يشعرك بالدفء والهدوء، تطوف بك خيالات رائعة وصور حالمة (يا طفلة تحت المطر تجرى واتبعها بنظر) أو (وردك يا زارع الورد)، وغيرها الكثير من الإبداعات الجميلة، هو أيضاً يستحق أن يقال عنه صوت الأرض. في الإمارات يمكن أن نقول عن الفنان الراحل جابر جاسم في بعض اختياراته للكلمات التراثية والأشعار القديمة، أيضاً صوت الأرض، وإن نافسه بقوة الفنان ميحد حمد.
تمضي الأيام وترحل، وفي كل بلد ومنطقة وأرض يحضر المبدعون من الفنانين، الذين يوثقون فنون بلدانهم، باختيارات، رائعة وجميلة، توثق الحياة الشعرية والفنية والتراثية، ليس الجميع مؤهلاً لذلك، ولكن الله يهب البعض أصواتاً جميلة وبديعة تشبه صوت الأرض التي ولد فيها الفنان، ثم سكنه الانتماء القوي لتراثه وترابه حتى أصبح يشبهه.
جريدة الاتحاد