ليس كلّ المؤرخين والباحثين يتفقون على أنّ حملة نابليون على مصر هي التي أطلقت شرارة النهضة العربية، باعتبارها صدمة نبّهت العرب إلى تخلفهم مقارنة بحال مُحتلّيهم، فبعض هؤلاء يرون أن العلاقة بين الغرب الأوروبي والشرق العربي لم تنقطع قطّ، وأنها ظلّت متواصلة بأشكالها السلبية والإيجابية حروباً وتبادلاً تجارياً ومعاهدات.
وهناك من رأى أن إقران بداية النهضة العربية بحملة نابليون ينطوي على إغفال لطبيعتها الاستعمارية، وتزيين صورتها، فالقول إنها محاولة لتصدير أفكار الثورة الفرنسية إلى الخارج، وإلى مصر بالذات، يخرجها عن السياق الحقيقي لأهدافها السياسية الواقعية، والمتصلة بالتنافس والمواجهة التجارية بين فرنسا وبريطانيا.
يعزّز هذا الرأي حقيقة أن الحملة الفرنسية لم تترك بعد انسحابها أيّ آثار مجدية. لم يبق في مصر أيّ عالم فرنسي، أو أي معدّات أو مطابع، وإنما كان محمد علي باشا هو من استقدم بعد ذلك من احتاج إليهم في تأسيس دولته العصرية من الخبراء الفرنسيين، وإذا كان هذا التحديد لبداية النهضة يؤكد العامل الذاتي في الوعي بضرورة قيامها، لكنه لا ينفي أهمية الدور الذي لعبته حملة نابليون على مصر في إيقاظ العرب على البون الكبير بين ما هم عليه وما عليه الغرب، إلا أن هذا التأثير الخارجي ما كان ليحرّك العرب لولا استعدادهم الداخلي للنهوض. ومهما يكن من أمر، فإن النهضة لم تشهد تكريساً عملياً لها إلا بعد أن تقلّد محمد علي عرش مصر، في الثامن عشر من يونيو/حزيران من عام 1805، وهي مناسبة مرت ذكراها السنوية قبل أيام قليلة.
حول ذلك كتب وليد بدران أنه «لم تكن هناك فرصة في أي مكان في الإمبراطورية العثمانية لإعادة هيكلة المجتمع بشكل كامل أكثر من مصر»، ويمكن القول إن الكاتب يقيم ما يشبه المزاوجة بين الرأي الذي يرى أن الحملة الفرنسية هي التي قدحت شرارة التغيير، والرأي الذي يُرجع الفضل في ذلك إلى محمد علي باشا، حين ينقل عن «دائرة المعرف البريطانية» قولها إن الاحتلال الفرنسي لمصر الذي دام ثلاث سنوات (1798-1801) أدى إلى تعطيل الآليات التقليدية في البنية السياسية والاقتصادية للبلاد، ليأتي محمد علي باشا ويُكمل المهمة التي بدأها الفرنسيون، حين قام «بالقضاء على المماليك، الأوليغارشية الحاكمة السابقة، وصادر مساحات كبيرة من ملاك الأراضي، وأحال الزعامات الدينية إلى التقاعد، وقيّد أنشطة التجار المحليين وجماعات الحرفيين، وقام بتحييد البدو، وسحقت قواته جميع حركات التمرد بين الفلاحين. وبحلول عام 1815، كان قد تمّ تحويل معظم الأراضي الزراعية في مصر إلى أراضٍ تابعة للدولة»، وهي خطوات كانت حاسمة في إحداث التغيير.
من قدح شرارة التغيير؟
جريدة الخليج