«أنساك؟ ده كلام»، هكذا تغني أم كلثوم، من كلمات مأمون الشنّاوي وألحان بليغ حمدي، مصرةً على: «أهو ده اللي مش ممكن أبداً/ ولا أفكر فيه أبداً». مثل أم كلثوم تغني فيروز من كلمات جوزيف حرب وألحان زياد الرحباني: «زعلي طوّل أنا ويّاك/ وسنين بقيت/ جرّب فيهن أنا أنساك/ ما قدرت نسيت».
كلمات لم تأتِ من فراغ، إنما من تجارب حيّة لبشر كثيرين، تحملهم فورات غضب، ولأسباب مختلفة، على محاولة «التحرر» من عاطفة، ربما لأنهم شعروا بأنها باتت تقيّدهم، ولكنهم لا يفلحون، وإذا جاءت كلمات أغنية أم كلثوم حازمة، وصارمة، في التعبير عن عدم الرغبة في النسيان، لأن «ده مستحيل»، فإن كلمات أغنية فيروز تعبر عن فشل محاولات متكررة للنسيان، دامت سنين، لكن «ما قدرت نسيت».
تقول الأشعار، بما فيها تلك التي أصبحت أغاني، في كلمات موجزة، ما تقوله دراسات معمقة لعلماء وباحثين، لأنها تحوي عصارة عواطف الناس وتجاربهم في الحياة، كما هما قصيدتا مأمون الشناوي وجوزيف حرب، اللتان غنتهما أم كلثوم وفيروز. وهو نفس ما خلص إليه عالم الأعصاب وأستاذ علم النفس في جامعة كاليفورنيا، تشاران رانجاناث، في كتاب بعنوان: «لماذا نتذكر؟»، ونشر موقع «بي.بي. سي» مطالعة فيه، تضمّنت «عصارة» تقول: «إن الذاكرة هي أكثر بكثير من مجرد أرشيف للماضي، إنها المنظور الذي نرى من خلاله أنفسنا والآخرين والعالم».
حسب تلك المطالعة، فإن البروفيسور رانجاناث «أمضى الثلاثين عاماً الماضية في استكشاف العمليات الدماغية التي تقف وراء قدرتنا على التذكر، والنسيان»، ليجادل «بأن العديد من افتراضاتنا الشائعة حول الذاكرة خاطئة ومضللة، فغالباً ما تنشأ وتنبثق عيوب الدماغ الواضحة من ميزاته الأكثر فائدة، الأمر الذي يخلق مرونة معرفية ضرورية لبقائنا».
لن ندخل في تفاصيل التحليل النفسي والعصبي الذي قدّمه البروفيسور، وسنكتفي بوقوفه عند «ازدحام» الذاكرة بالتفاصيل، طارحاً هذا السؤال: «دعنا نتخيل أنك ذهبت إلى منزلك، وسألت: لماذا تحتفظ بكل أشيائك؟ لماذا تخزن كل شيء؟ إذا لم ننس الأشياء التي عملناها ومررنا بها، فستخزن كل الذكريات، ولن تتمكن أبداً من العثور على ما تريد، عندما تريده»، وكأنه يشير إلى أن الذاكرة ملأى بالتفاصيل التي تنتهي بانتهائها، ولتوضيح الفكرة قال: «أنا أقيم حالياً في فندق، ولن يكون من المنطقي بالنسبة لي أن أتذكر رقم الغرفة التي أسكن فيها بعد أسبوعين من الآن. وبالمثل، فكر في جميع الأشخاص الذين مررت بهم في الشارع. هل حقاً أنت بحاجة إلى حفظ وتذكر وجوههم جميعاً؟»
قول وجيه ومنطقي، لكنه لا يلامس جوهر ما صدحت به حنجرتا أم كلثوم وفيروز.
ما صدحت به أم كلثوم وفيروز
جريدة الخليج