سأل صحفيٌّ نجيب محفوظ كيف تكتب الرواية؟ فرد عليه فوراً بالورقة والقلم يا ابني ونطقها بالمصري (بالورأَة والألم)، وهنا أقول استطراداً إن القلقشندي في كتابه “صبح الأعشى” ذكر أن أهل القاهرة في زمنه ينطقون القاف همزةً، ولهذا فالنطق بهذه الصيغة قديمٌ (قبل سبعة قرون في الأقل). ولعل النطق المصري لكلمة القلم في جواب نجيب محفوظ ليس مجرد نطق للقاف بصوت الهمزة وإنما يتضمن أيضاً حالة العناء والمعاناة مع لحظات الكتابة الإبداعية. وقبل ذلك رُوي عن جرير أنه كان يتمرّغ في الصهريج وهو يعاني لحظات تصيُّد أبيات الشعر.
وروي عن الجواهري أنه يصاب بنوع من اللوثة ولمسات الجنون حين ينهمك في كتابة الشعر إلى أن تلين الفكرة العنيدة (حسب كلمة السياب الذي روى أيضاً حالته مع ميلاد القصيدة)، مما يعني إن تصيُّد إيقاعات الشعر ومجازاته مثلها مثل تصيُّد حبكات الرواية، ومثل تصيد شوارد الأفكار، وكلها شوارد تقلق وتؤرّق وتشعل روح مُنشئها وتؤلمه بمثل ما تسهر عيون الخلق عليها بعد ذلك حسب المتنبي، وذلك بعد أن تستقل عن صاحبها وتطوف عوالم الحياة والناس، وينام صاحبها الذي قلق وتألم منها فتتولى إيلام القراء وتعذيب مشاعرهم وأفكارهم في تتبع شواردها “.
وفي تجربتي مع الكتابة ما أنتجت نصاً قط إلا وأمر بحالة قلق تنتابني صبيحة اليوم الذي أزمع فيه على الكتابة. وعادةً لدي جدول عن منظومة أفكار معينة لأن تكون توريقات مثلاً أو بحوثاً، وفيهما معاً تكون الفكرة سهلةً في بدايتها لأنها ترد تلقائياً وتقترح نفسها، أو تفرض نفسها، وتظل تشاغلني إلى أن أسجلها على وريقات دوماً تكون بجانبي لهذا الغرض، ولكن حين الإقبال على لحظة التنفيذ ينتابني القلق ولكن ما أن أمسك بآلة الكتابة حتى أنسى قلقي وأدخل في النص كحال السبّاح حين يرمي جسده في المسبح، فينطلق الجسد ليواجه الماء ويندمج فيه. وهنا تنطلق الفكرة بشكل يفاجئني دوماً إذ يتدفق القول وكأن الفكرة لم تكن مشروع كتابة بقدر ما تبدو وكأنها حيلةٌ للإيقاع بالمخ في مواجهة مباشرة مع الورقة والقلم.
وكما يحدث للسباح حين يجد نفسه طافياً على صفحة الماء ويندمج مع الحركة والتموج حتى ليعجب من مفاجآت جسده، فكذلك هي الحال مع الكتابة، وهي حال كتابة هذه التوريقات أيضاً، وإن اختلفت الحال مع الكتابة البحثية حيث تحضر شروط البحث والمنهجية لتزاحم التدفق وتروّضه حسب الشرط البحثي. وإن كنت بدأت مع نجيب محفوظ فإن جوابه ذاك يفسر حال الكتابة الحرة، ومعها فمجرد الإمساك بالقلم والورقة يطلق المخ كما يطلق الحبر في جوف القلم، ويجري الكلام كأنه مكتوبٌ أصلاً في المخ ويتنزّل على الورق بمجرد فتح الصنبور كما يتدفق الماء المحبوس. في حين تكون الكتابة المنهجية أكثر عسرةً ووجعاً وأطول معاناة وحرقةً.
الكتابة بين القلم والألم