«أتعامل مع اللوحة مثلما يفعل ناجي العلي في توظيفه لشخصية حنظلة في لوحاته»، بتلك الكلمات يقارب الفنان عبد الرحيم سالم فكرة الرمز في أعماله الفنية، والتي تعبر عن أفكاره وتصوراته المختلفة، كما يفتح عبرها الباب للتأويل المختلف للوحات الفنان التي تتحدث عن تجربة طويلة مع اللون والفرشاة وفن النحت، ما جعل منه واحداً من أهم الفنانين من جيل الرواد ليس في الإمارات وحدها بل على مستوى الوطن العربي، كما له إسهامه وحضوره العالمي، ذلك لأنه نجح في أن يضع رؤية وبصمة خاصة به.
أسهم سالم في صياغة المشهد التشكيلي الإماراتي والعربي بممارسات فنية مختلفة كان لها حضورها الساحر والجميل، ووجدت أعماله صدى كبيراً وطيباً من قبل النقاد وعشاق الفنون الجميلة والتشكيلية، خاصةً أنه يهتم بالمعنى والفكرة بما يخدم الجمال من دون إخلال بالمعايير الإبداعية، كما أن أعماله تُثير الأسئلة وتحرّض المشاهد على التأمل ومحاولة قراءة المخفي عن العمل، وذلك من الأساليب الحديثة في الفنون التشكيلية، إذ إن اللوحة لا تكتفي بما تحمل من مشهد، بل تبوح بما هو غائب عن الصورة بدلالة العلامات والرموز، وهي أسلوبية تحترم المتلقي، وربما تكونت هذه الطريقة وتلك التقنيات عند الفنان من خلال الخبرات الطويلة التي مكنته من أدوات مختلفة، وكذلك عبر العديد من العوامل التي شكلت وجدانه ومنها البيئة المحلية التي كثيراً ما عبّر عنها في لوحاته وأفرد لها مساحات كبيرة، وكذلك من خلال تأمله في الواقع اليومي ورصده للمتغيرات والتقاط التفاصيل الصغيرة بحس وروح فنان ليحولها إلى قطع فنية.
ما بين الإمارات والبحرين، التي قضى فيها بعض الوقت، تفتحت ونمت موهبة سالم الفنية، وتشبع وجدانه بعبق الأمكنة من أزقة وبيوت ومعالم رسخت في ذهنه، وكان للمدرسة الإعدادية في البحرين وهي فترة مثلت شغف البدايات في مجال الرسم نهل فيها من أبعاد مختلفة شكلت ذائقته وإبداعه الفني، وكانت عتبة أساسية في رحلة مغامرة فنية لا تزال تمارس فعل العطاء الإبداعي، بعد أن أعدّ الفنان نفسه بصورة جيدة وصقل الموهبة بالعلم عبر دارسة الفنون الجميلة في مصر في فترة نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيّات من القرن الماضي، التي كان لها أثرها في حياة سالم، حيث كانت مرحلة زمنية لها خصوصيتها في العالم العربي، حيث الألق المعرفي والثقافي في ذلك الوقت، ولئن كانت بدايات سالم الفنية قد اعتمدت على قلم الرصاص والباستيل والفحم، فقد أتت بعدها مرحلة الكولاج وكذلك الأكريليك، وتنوع أسلوبه الفني بتعدد مراحله الفنية، من النحت إلى الرسم والتشخيص، لينتقل بعدها إلى التعبيرية التجريدية، والرمزية، والتجريد، فهو يرى أهمية التنوع والانفتاح على وسائل وأساليب ومواضيع مختلفة، إذ إن التكرار ـ بحسب سالم ـ يبعث على الملل والمحدودية.
- *ملحمة مهيرة
وربما ما جعل سالم يستحضر نموذج شخصية حنظلة، بطل رسومات ناجي العلي، هو التقاطه لشخصية من تراث الحكايات الشعبية الإماراتية وهي «مهيرة»، التي سكنت أعماله، بل وعبّرت تلك الشخصية عن التطور الكبير في التجربة الفنية لسالم حدّ أن أصبحت ملحمةً أومشروعاً فنياً، غير أن مهيرة ليست غاية في ذاتها، ليست فتنة بالميثولوجيا أوالأسطورة، بقدر ما أنها رمز وفكرة عبرت رؤاه وتصوراته وأفكاره المختلفة وموقفه الفلسفي من الحياة والوجود، فالفنان دائماً ما يلجأ إلى الرمز في تعبيره عن الواقع، خاصةً الأفكار السياسية أوالأيديولوجية ذات الحمولة الثقيلة التي يصعب التعبير عنها بصورة مباشرة، بالتالي كانت مهيرة فكرة أوعلامة حضرت بقوة في لوحات سالم حتى عندما غابت، فقد أراد سالم، بحسب حديثه للخليج، أن يغيب مهيرة عن مشهد اللوحة كجسد، على أن تحضر كفكرة، وربما كان مرد ذلك إلى أن سالم أراد أن يوضح أن القضية ليست مهيرة فقط، بل ما تعبر عنه من معان وأفكار مختلفة، ويقول سالم: «الرمز في العمل الفني هو من أجل إضافة جانب خاص له دلالاته الفكرية، لذلك عندما تغيب مهيرة عن اللوحة فهي تحضر بصورة رمزية مختلفة وتعبر عن تصور معين، عندما نطلق اسم أو شكل في عمل، فإن هناك من يبحث عن الوجود ذلك الشكل داخل اللوحة وفي بعض الأحيان لا يجده، لأن الفنان قرر أن يغيبه ويستبدل ذلك الغياب بما يشير إليه ويعبر عنه».
- *بعد روحي
لا يخفي سالم البعد الصوفي والروحي في أعماله الفنية، حيث إن المتصوفة، كما يرى الفنان، لديهم نوع من الإحساس صعب الإدراك، أبعد مِمّا تراه العين، غير أن سالم يؤكد على أن تجربته الروحية في الرسم هي خاصة جداً به، لكنها على العموم أمدته بأسلوبية وتقنية مختلفة في الرسم، وساعدته على تشكيل نسيج إبداعي عبر خيوط غير مرئية، لذلك يقول سالم عن تجربته مع مهيرة: «إن سلسلة اللوحات التي أنتجتها عن مهيرة هي محاولة إنسانية صرفة لبعث حكايتها المؤلمة، وتحويل المنسي في هذه الحكاية إلى نمط بصري قابل للتأويل والتفاعل الإيجابي».
- *سيرة الحجر
قوة الالتقاط عند سالم تتضح بصورة أكثر جلاء من خلال أعمال النحت، وفي تعامله مع الحجر الذي يعني له الكثير، فهو أكثر من مجرد مادة صخرية، بل يحضر عند الفنان كمفهوم فلسفي وفكري، فالحجر هو أول سلاح استخدمه الإنسان في قتل أخيه، وهو كذلك سلاح الضعيف في وجه القوي، ومن خلال تلك التصورات عن الأحجار والصخور استطاع سالم أن ينحت أعمالاً عبرت بقوة عن رؤاه وأفكاره وكذلك عن البيئة الإماراتية، فالحجر الصوان يرمز إلى مرحلة شظف العيش في الإمارات قبل الازدهار الكبير الذي تشهده الدولة في الوقت الراهن، ويقول سالم: «الحجر هو فكرة، فالناس لا تلقي له بالاً، يزيحونه عن الطريق، لكنه يمثل لي الكثير، لذلك فإن أعمالي النحتية تعبر عن تصورات عن الحجر نفسه»، ويشير سالم إلى مشروع عمل فني قادم يحمل تلك المعاني.
- *إضاءة
وُلد الفنان الإماراتي عبد الرحيم سالم عام 1955، وحصـل على شهادة البكالوريوس في قسم النحت من كلية الفنون الجميلة في جامعة القاهرة عام 1981، عُرضت أعماله الفنية في العديد من المعارض الفردية الإقليمية والبيناليهات الدولية، وهو من طليعة الفنانين الإماراتيين الروّاد الذين أسهموا في تشكيل المشهد الفني في الدولة، فضلاً عن كونه أحد الأعضاء المؤسسين لجمعية الإمارات للفنون التشكيلية في الشارقة، والتي شغل فيها منصب رئيس مجلس الإدارة، حاز على العديد من الجوائز في مسيرته المحلية والعربية.
عبد الرحيم سالم.. الرسم بخطوط غير مرئية
جريدة الخليج