في كتاب «سغب العواطف» الذي أتينا على ذكره قبل فترة، وضمّ رسائل الأكاديمي والناقد العراقي علي جواد الطاهر إلى زوجته، لن نكون، تماماً، إزاء رسائل عاطفية بالصورة التي اعتدناها في رسائل أدباء إلى حبيباتهم، فلا عتب هنا ولا لوم ولا شكوى من صدّ أو هجران، إنما نحن بصدد رسائل توجز، في الجزء الأكبر منها، معاناة الطاهر في الغربة التي كانت قسرية، وفيها يمكن أن نقرأ أوجهاً من معاناة الكثير من مثقفي العراق وأدبائه وفنانيه المستمرة، ممن وجدوا أنفسهم محمولين على مغادرة وطنهم.
الحقيقة أن رسائل الطاهر إلى زوجته فائقة، التي أكثر من مناداتها بأسماء دلع في تلك الرسائل: «فيوقتي»، «فيق» تحوي شحنة عالية من الأشواق والعواطف ومشاعر التقدير لزوجة بدت في عينيه مثالية جداً، في تحمّلها تبعات تدبر أمور العائلة والأولاد في ظروف غياب الزوج، وهي إلى ذلك امرأة متعلمة، عملت معلمة ثم أصبحت مديرة مدرسة: «أنت فيق التي لا تغيب عن الخاطر، فيق الحبيبة الكاملة، أم البيت المثالية، أرجو ألا تكون سفرتي قد سبّبت لك إزعاجاً كثيراً». وفي رسالة أخرى يصف فائقة ب«الزوجة الصالحة، الحبيبة، الحكيمة، التي تعرف كيف تحبّب إلى رجل بيته وتريه الجنة فيه، وتعلم كيف يقدّر النعم التي تهيأت له، فجنبته المتاعب وأحلّت له السعادة والاطمئنان». وفي مكان آخر يقول: أُجلّ زوجتي وأُحبّها، معتذراً لها؛ لأن «توافه الدنيا» تشغله عن الإعراب عن عواطفه لها.|
لم تستطع هذه الزوجة بكل تلك الصفات فيها أن تحول دون قسوة الوطن على الزوج، فبعد الانقلاب العسكري على أول رئيس لجمهورية العراق، عبدالكريم قاسم، في العام 1963، فُصل الطاهر من وظيفته كأستاذ للأدب في جامعة بغداد، ولوحق زملاء آخرون له، فاضطرّ لمغادرة العراق إلى بيروت، التي منها كتب جلّ الرسائل التي حواها الكتاب، رغم أن هناك رسائل سابقة لها وتالية، كتبها من بلدان حضر فيها مؤتمرات وفعاليات، وبلدان أخرى عاش فيها كالسعودية التي أتاها أستاذاً جامعياً في الرياض، بعد أن تعذرت عودته إلى الوطن.
الرسائل من بيروت حوت إضافة إلى شحنة الأشواق العالية إلى زوجته وولديه، حينها، الكثير من التفاصيل، حتى يمكن أن نعدّ بعضها بمنزلة يوميات للطاهر في لبنان، كما حوت قضايا عملية تتصل بشؤون الأسرة في بغداد، وتدبير شؤون سفر الزوجة والولدان إليه، بعد أن استقرّ على السفر للرياض للعمل.
صحيحة ملاحظة معدّة الكتاب د. لقاء الساعدي في أن رسائل الكتاب ترينا صورة الطبقة الوسطى العراقية في نموّها، وتأثير القمع السياسي عليها، وتبعثرها بين المنافي والسجون.