المرأة تعتقد بأن الحرية تأتي عن طريق الثقافة والفنون
ما في ذلك شك، أن لنا أديبات مغاربيات وعربيات من الطراز العالي، روائيات وشواعر يكتبن بلغات مختلفة بالعربية والأمازيغية والفرنسية، لكن ما يلفت الانتباه في مجتمعاتنا المعاصرة هي ظاهرة المرأة القارئة، قارئة الأدب بالأساس، تلك التي تلتهم الإنتاج الأدبي بصورة مميزة، يحدث هذا في الواقع الأدبي بالجزائر، ولكني متأكد أن هذه الظاهرة هي عامة في جميع البلدان المغاربية والعربية على حد سواء.
هل النساء يقرأن أكثر من الرجال؟
استئناساً واستناداً إلى مجموعة من الملاحظات التي أستخلصها من تجربتي الخاصة في اللقاءات الأدبية الكثيرة التي أنشطها، أو تلك التي أحضرها لكتاب آخرين والتي غالباً ما تكون متبوعة بحفلات توقيع الكتب، وبالأساس الرواية، يبدو حضور المرأة هو الغالب دائماً، نساء من كل الأعمار، يقرأن بالعربية وبالفرنسية.
ما السبب يا ترى الذي يكمن وراء هذا الحضور الأنثوي البارز، العددي والنوعي؟ وما السر في هذا الاستقبال الأنثوي المميز للأدب قراءة؟
يبدو لي أن المرأة المثقفة في مجتمعاتنا تؤمن بأن تحرير الفضاء العام وتحرره، ومنه تحرير الأوطان، يبدأ باحترام حرية الفرد والدفاع عنها، وفي القراءة التي هي حال فردية تتحقق هذه الحرية بكل وسعها، ففي القراءة تختار المرأة وجهة سفرها ورفيق سفرها وزمن سفرها ولغة سفرها أيضاً، على رغم كل الإكراهات.
وإذا كانت حرية الرجل المثقف الفردية أو الشخصية تتعرض هي الأخرى للانتهاك والقمع، إلا أن ما تعانيه المرأة المثقفة هو أضعاف ما يلحق بالرجل المثقف، من هنا، فالقراءة هي طريق الحرية الفردية التي هي في نهاية المطاف طريق الحرية الجماعية وأساسها، ولذا نجد المرأة مرتبطة بالكتاب طريقاً لهذه الحرية والتحرر.
حرية الأوطان وهم كبير إذا لم يكن الفرد فيها يتمتع بحريته الشخصية أولاً، إن حرية الفضاءات الذكورية الشكلية الاستهلاكية التي نراها بكثرة في مجتمعاتنا المغاربية والعربية ليست أبداً التعبير عن حرية الأوطان ولا هي صورة صادقة لها.
صحيح أن الرجل المثقف يملك حرية كبيرة في ارتياد الفضاءات العامة مثل المقاهي والصالونات والمطاعم والأرصفة وفي أوقات مختلفة، ليلاً ونهاراً، في حين تجد المرأة المثقفة صعوبة وحواجز كثيرة في امتلاك هذا الحيز العمومي، لذا فهي تحضر هذه الحيّزات العامة التي يصعب عليها الوصول إليها جسدياً من خلال الروايات والقصص والشعر.
قراءة الأدب الجيد تفتح مسالك الحرية الذاتية
إن القراءة الأدبية والفلسفية الجيدة تحرر المرأة المثقفة من كابوس ثقافة الذكورية الشمولية التي تعشعش في المخيال الجمعي، وتمنحها ذكاء كبيراً لمقاومة العزلة وإسقاط أسوار الحصار المضروب عليها من قبل حراس المعبد الدينيين والأخلاقيين والسياسيين، رسل أيديولوجيا الذكورة.
إذا كان الرجل المثقف، في البلدان العربية والمغاربية، يعتقد، بصورة عامة، بأن الحرية تتحقق عن طريق السياسة، فإن المرأة تعتقد بأن الحرية تأتي عن طريق الثقافة والفنون، وإن الحرية التي نجيئها عن طريق السياسة هي حرية شكلية وموسمية وانتهازية، أما الحرية التي نجيئها ونحصل عليها عن طريق القراءة، فهي الحرية الدائمة التي تؤسس لمجتمع حرّ على المدى البعيد.
القراءة الأدبية تعلم الفضول الإيجابي والسياسة تعلم الانتهازية، لذا نجد المرأة المثقفة محصنة برغبة الاكتشاف الإنساني والاجتماعي، والرجل المثقف يبحث عن حصانة في السلطة السياسية.
يبدو لي أيضاً أن اللغة هي طريق الحرية، وامتلاك اللغة التي تحرر الفرد نعثر عليها في كتب الأدب الجيد أساساً، تلك الكتابات التي تعتمد بلاغة جديدة هي البلاغة الاجتماعية التي تكسر المحرمات وتناقش المسلمات أو ما يعتقد بأنه من المسلمات عن طريق الإبداع أو الأسئلة الفلسفية.
ليست اللغة الأدبية طريقاً لتحرير المخيال عند المرأة المثقفة فقط، ولكنها أيضاً الطريق الذي يحرر الجسد الأنثوي من الخنوع الجنساوي الذكوري التفريخي، فالمرأة التي تقرأ الكتب الأدبية الجيدة تتشكل لديها أرضية فلسفية لاستعادة جسدها والتصرف فيه كما يحلو لها، فهو ملكيتها الخاصة المطلقة، لذا تحرره من هيمنة أيديولوجيا الذكورة الاستهلاكية، بهذا المعنى، فالقراءة الأدبية تنقل فلسفياً وسلوكياً جسد المرأة إلى منطقة المساواة الجنسية، المساواة في الرغبة، ومن خلال القراءة تخرج المرأة المثقفة جسدها من مربع “المرأة السهلة” إلى مربع الجسد الأنثوي الذي تتحقق فيه الأبعاد الإنسانية والجمالية، فإن الجسد الأنثوي المثقف الذي تحرره لغة الأدب يتعامل بندية مع الجسد الذكوري، إذ تصبح له مقاومة طبيعية لكل أشكال الهيمنة التي يحملها الرجل في عقله والمتراكمة عبر تاريخ الذكورة والعنصرية الجنسية.
إن إقبال المرأة في مجتمعات الجنوب، وبصورة لافتة، على قراءة الرواية العالمية المترجمة، مثلاً، وهذا الإقبال ظاهرة واضحة ومؤكدة من خلال أرقام المبيعات التي تحققها المعارض الدولية للكتب التي تقام دورياً وباستمرار في العواصم العربية وفي كثير من المدن الكبرى الأخرى، يعبر هذا الإقبال عن سعي إلى فهم مسارات تحرر المرأة في العالم لأن ذلك يساعدها على توسيع رؤيتها للحرية ويختصر لها شقاء الرحلة، ولعل الرواية هي واحدة من الأصوات الأدبية التي كتبت بصورة عميقة تاريخ معركة التحرر الاقتصادي والسياسي والثقافي والاجتماعي التي خاضتها المرأة الأوروبية والأميركية.
ما في ذلك شك جميع اللغات جميلة، ولكل لغة عبقريتها ولكل لغة منطقها ولكل لغة ذاكرتها، تتحدد هذه الخصوصية في طبيعة العقل والمنطق والذاكرة من خلال المحتوى الديني أو الفلسفي أو العلمي أو الأدبي الذي يهيمن على هذه اللغة أو تلك، ففي كل لغة هناك محتوى يغلب على المحتويات الأخرى، وكلما امتلكت لغة ما مضموناً عقلياً غالباً كانت عبقريتها أكبر، وكلما كانت رهينة محتوى أيديولوجي فاسد فقدت من عبقريتها. انطلاقاً من ذلك، ففي لغة القراءة التي تمارس بها المرأة علاقتها بالكتاب يتحدد بعض من طبيعة علو سقف الحرية.
هذا لا يعني بالمطلق أن هناك تفوقاً للغة على أخرى، فجميع اللغات قادرة على أن تكون حاضنة للفكر الحداثي، ولكن طبيعة ما تنتجه وتبدعه النخب داخل لغة معينة وبها، طبيعة هذا الإنتاج، هو الذي يحدد شكل التأثير وجوهره الأيديولوجي والفلسفي والسياسي والاجتماعي لهذه اللغة أو تلك، إذ إن اللغة لا تؤثر من خلال تفوقها في القواميس ولكن من خلال النصوص التي تبدع فيها وبها، فمن هنا تمثل اللغات من خلال ما ينتج فيها وبها حصاراً أو انطلاقاً، هيمنة أو تحرراً، للقارئة أو القارئ.
قد بدأت معركة الحرية الفردية للمرأة في مجتمعات الخليج المعاصرة من خلال بوابة القراءة الأدبية، فمعارض الكتب التي تقام في هذه البلدان تبرز فيها المرأة كأكبر مقتنية للكتاب، وبالأساس الروايات المحلية والعالمية المترجمة، وكذلك، كتب الفلسفة وعلم النفس، وأعتقد بأن هذه القراءة والعلاقة الإيجابية للمرأة الخليجية بالكتاب تفسّران اليوم تلك الخطوة النوعية في باب التغيير الاجتماعي والسلوكي والاقتصادي الشامل هناك، فكلما كان الإقبال على الكتاب الجيد الذي يدافع عن القيم الإنسانية الكبرى في الأوساط النسوية كبيراً، كان التغير الاجتماعي مضموناً وبعيد المدى.