ليس في الشعر العربي وحده ما يستحق إعادة القراءة والتأمل في المعاني الثواني التي أهملتها القراءة العابرة ، بل هناك في حياتنا العربية وفي الواقع الإنساني ما يستدعي مجموعة من القراءات للوقوف من خلالها على المستجدات التي لا يمكن فهمها والكشف عن أبعادها إلاَّ بأكثر من قراءة سياسية وفكرية واجتماعية. وبيت الشعر الذي تحاول هذه القراءة النظر في معناه الآخر الذي لم يتوقف عنده القراء والدارسون، هذا البيت هو :
عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى
وصوّتَ إنسان فكدت أطير
القراءة الأولى والسائدة لهذا البيت هي قراءة متشائمة ومفرطة في هجاء الإنسان، حتى لقد جعلت عواء الذئب أكثر بهجة وطمأنينة من صوت الإنسان. ويبدو أن الشاعر كان يعكس في بيته الشعري هذه حالة من التنافر بين الناس والقيم الداعية إلى المحبة والتعاطف. أما القراءة الثانية فهي تحاول أن تكون متفائلة وأن تعيد الاعتبار للإنسان بوصفه إنساناً حريصاً على أبناء جنسه، وإذا كان الإنسان السائر في الغابة المظلمة قد استأنس بصوت الذئب، وهو من الحيوانات المفترسة فإنه سيطير فرحاً إذا ما استمع إلى صوت إنسان مثله. وهنا يتجلى الفارق بين القراءتين، الأولى المتشائمة، وهذه التي تنضح تفاؤلاً وثقةً بالإنسان، وما ينبغي أن يكون عليه من سمو إنساني وارتقاء بشري يميزه عن بقية المخلوقات التي لا تملك عقلاً، ولا يمكن المراهنة على قدرتها في كسب أي مستوى من الوعي.
وأظن أن هذه القراءة الثانية لن تروق لكثير من بني الإنسان الذين يرون بعيون محترقة وقلوب فاض بها اليأس بما يحدث هنا وهناك بين البشر بعد أن تعطلت ضمائرهم وتدمرت مشاعرهم وصار الحيوان في الغابة أقل خطراً على الإنسان منهم، ومما يرتكبونه في حق بعضهم من تقتيل وتخريب وافتعال للحروب.
ومن حق هؤلاء الذين يرفضون القراءة المتفائلة أن يتمسكوا بالمعنى الأول والسائد لبيت الشعر موضوع الحديث، حين كان الإنسان يستأنس بعواء الذئب ويطير فزعاً من صوت الإنسان الذي قد يكون ذئباً بشرياً قاتلاً أو قاطع طريق.
وفي الواقع الراهن عربياً وعالمياً من المشاهد اللاإنسانية ما تنفطر له الأرض ويندى له جبين السماء .
وأي دليل أفظع وأشنع على سقوط البشر والمتحضرين منهم خاصة – وافتقادهم لبعض ما تمتاز به الحيوانات المفترسة – عن مثل هذا الجندي الذي يطلق صاروخاً من مسافة بعيدة على رؤوس المئات والآلاف من الناس الأبرياء، وهو لا يراهم وليس بينه وبينهم خصومة شخصية أو خلافات على شيء من أطماع الدنيا الفانية، وأياً كانت ردود أفعال القراءتين فإننا نكون قد فتحنا كوةً صغيرةً في جدار أقوى وأطول من سور الصين العظيم.
جريدة الخليج