جاءني صوته أواخر شهر رمضان الماضي عبر الهاتف واهناً، كعهدي به في السنوات الأخيرة، واتفقنا على عدم مباعدة التواصل عبر الهاتف على الأقل، إن لم يتسن لنا لقاء قريب في القاهرة، وقد أحسست أن صوته هذه المرة كان أكثر وهناً، رغم أن صوته لم يكن يوماً عالياً منذ أن عرفته، وهو القامة الرفيعة في ميادين الكتابة والبحث والتأليف للمسرح والإذاعة والتلفزيون والسينما.
تشهد على ذلك أعماله الخالدة التي أصبحت بصمات في تاريخ هذه الفنون، مثل مسلسلات «بوابة الحلواني» و«سليمان الحلبي» و«ليلة سقوط غرناطة» و«أم كلثوم»، وأفلام «ناصر 56» و«القادسية» و«حليم»، ومسرحيات «حفلة على الخازوق» و«السندباد البحري» و«كوكب الفيران»، والكثير مما يضيق عن حصره المجال.
وقبل أيام كنت أتابع برنامجاً خاصاً عن الفنان نور الشريف في الذكرى الثانية لرحيله، فسمعته يتحدث عن آخر مشاريعه الفنية التي كان ينوي تصويرها، فيذكر أن كاتب أحد هذه المشاريع هو «العملاق» محفوظ عبد الرحمن، لهذا كان وقع خبر انتقال محفوظ عبد الرحمن إلى الرفيق الأعلى على نفسي كبيراً، وقد عايشت معه من على البعد فترة معاناته مع المرض الذي صاحبه خلال السنوات الأخيرة من عمره، فأخذ الكثير من صحته، لكنه لم يأخذ شيئاً من جمال روحه.
بل جعله أكثر رقة مما عرفناه، وعزز نظرته المتفائلة للحياة، رغم قتامة المشهد من حوله، وهو المناضل القومي العنيد الذي كرس حياته لخدمة قضايا وطنه وأمته، وتناول بذكاء شديد خلال أعماله مراحل مختلفة من التاريخ العربي والإسلامي، وأسقطها على الواقع، مثلما فعل في مسلسل «ليلة سقوط غرناطة» الذي شرّح فيه عوامل الضعف التي نخرت في جسم الأمة، وأدت إلى سقوط الخلافة الإسلامية في الأندلس.
وجسّدها في ليلة واحدة استعرض خلالها اللحظات الأخيرة التي سبقت تسليم غرناطة إلى الملكين الإسبانيين فرديناند وإيزابيلا، وإعلان نهاية الوجود الرسمي للعرب والمسلمين في شبه الجزيرة الإيبيرية، ورسخ في أذهاننا مشهد الأميرة «عائشة الحرة» وهي تنظر إلى ابنها «أبو عبدالله الصغير» آخر ملوك بني الأحمر يبكي على ضياع ملكه، وتقول له: «ابك مثل النساء ملكاً مضاعاً لم تحافظ عليه مثل الرجال».
لقد تجلت مهارة محفوظ عبد الرحمن خلال مسلسل «ليلة سقوط غرناطة» في تكثيف أحداثٍ دارت كلها في ليلة واحدة عبر 13 حلقة في إطار مشوق، دون أن يضطر إلى الإطالة، كما يفعل غيره، وهو ما لا يستطيع أي كاتب آخر غير محفوظ عبد الرحمن أن يفعله، بكل الإسقاطات التي وضعها في المسلسل عن حال الأمة في أواخر السبعينيات من القرن الماضي، الأمر الذي جعل عدداً من التلفزيونات العربية ترفض عرضه لشدة حساسيته، بينما عرضته تلفزيونات أخرى، كان من بينها تلفزيون أبوظبي.
وعلى مدى سنوات عمر محفوظ عبد الرحمن، ظل هاجس ملامسة أشواق الأمة العربية ومشاريعها الكبرى يلازمه، ويظهر خلال الأعمال التي كتبها، والتي ظل يخطط لكتابتها حتى آخر لحظة من عمره. لذلك فإننا لا نجاوز الحقيقة حين نقول إننا فقدنا عملاقا من العمالقة الذين لا يتكررون.
كان، رحمه الله، شديد التواضع، يخجل من المدح والإطراء. أذكر أنني كتبت مرة في «استراحة البيان» مقالا سجلت فيه اعترافي بأنني من أشد المعجبين بكتابات صاحب القلم الرشيق محفوظ عبد الرحمن، وقلت إنني بصدد أن أقترح عليه ترشيح نفسه عميدا لكتاب الاستراحة، أو نقيبا لهم.
وأبديت تأثري بأسلوبه في الكتابة، وقد كان واحداً من أهم كتاب الاستراحة، فما كان منه إلا أن كتب في الأسبوع التالي مقالاً تحت عنوان «أوهام العمادة»، تحدث فيه عن تورطه في كتابة الاستراحة، وتورط الزملاء في «البيان» في شخصه الضعيف، ظناً منهم أنه يعرف كيف يكتب استراحة، فلما عرفوا العكس أصبح صعباً إجلاؤه عن مساحته، أو أنّ تثبيت الكتّاب في أماكنهم الأسبوعية يحتاج إلى انقلاب لا يريده الأخوة، ولذلك قبلوا الأشواك بجوار الورود.
ومضى يشيد بكتاب الاستراحة، وذكر منهم الأستاذين جابر عصفور ومحمد الخولي، ولم يفته أن يجاملني فيذكرني معهما، ثم أضاف قائلاً: «أحسدهم على ما في استراحاتهم من معلومات وجهد، وأحس أنني بجوارهم، وبجوار غيرهم، مثل المنولوجست إلى جوار عبد الحليم حافظ»!
كما حدث مرة أن تم نقل مقاله من استراحة البيان إلى غلاف ملحق الخميس الأسبوعي الذي كان يصدر عام 2001 دون استشارته، فكتب مقالاً أبدى فيه عدم رضاه عن هذا القرار، واعتبره نفياً لم يؤخذ فيه رأيه، وعقاباً على أخطائه التي تبدأ من رداءة خطه.
ولا تنتهي عند عدم انتظامه في الكتابة، ملمحاً إلى الصقيع الذي يشعر به بعد أن تم إبعاده عن «استراحة البيان» وفارقنا إلى حيث لم يطب له المقام ولم يرق، ومع ذلك فقد جلس في كبرياء بعيداً عن الاستراحة، وقد وضع ساقاً على ساق، ليرى الناس أنه هناك أسعد حالاً.
وعبر عن غضبه من كتّاب الاستراحة، وقال إنهم قد تخلوا عنه وتركوه وحيداً، فرددت عليه بمقال قلت فيه إنه بحسابات الربح والخسارة نعتبر أنفسنا نحن، كتاب الاستراحة، أول الخاسرين بانتقال زميلنا العزيز من هذه المساحة، إذ كنا نباهي بوجودنا معه، وكنا نقول إننا نكتب في استراحة البيان مع محفوظ عبد الرحمن، ففقدنا هذه المزية.
رحم الله صديقنا محفوظ عبد الرحمن، فقد كان عملاقاً بحق، وكانت صحبته جميلة مثل روحه، وكانت ليلة رحيله شديدة الوقع علينا جميعاً.