ممارسات فنية متنوعة ومتعددة يقدمها علي العبدان، وتحكي تجربته عن لقاء أنماط وأشكال إبداعية، من نحت ورسم وشعر وموسيقى وكتابة سردية، بل وطرق كذلك مجالي النقد والبحث، الأمر الذي ميَّزه بطريقته وأسلوبه الخاصين في مسيرته، ليصبح واحداً من أهم المبدعين الإماراتيين، ولعل أكثر ما يميز تلك التجربة أنها قد اتَّسمت برافعة الفكر والفلسفة، حيث مارس الفنان فعل التأمل والبحث والتنقيب، واكتشاف العلاقات بين الفنون والآداب المختلفة.
خاض العبدان في تجربته الإبداعية غمار رحلة فنية عامرة بالجماليات، فقد ظهرت موهبته في الرسم في وقت مبكر من عمره، حين بدأ مرحلة الخربشة العفوية والرسم، إذ كان لمرحلة الطفولة دور كبير في التكوين الوجداني والجمالي له، وهو يصف تلك الفترة الثرية بـ«الطفولة البصرية»؛ حيث كانت رسومات الكرتون في التلفزيون، والكاريكاتير في الجرائد، وحصص التربية الفنية في المدرسة، فسحةً عامرة بالألق والجمال جعلته يكتشف موهبته وميله الفطري نحو الرسم.
وتعمق ارتباط العبدان بالرسم في المرحلة الإعدادية، عندما تعرف في تلك الفترة إلى ألوان الزيت واستخداماتها عن طريق أحد المدرسين المصريين الذين أعجبوا بموهبته، فكان أن رسم في ذلك الوقت الباكر لوحة عن «الاتحاد»، تلك التي وجدت الإعجاب والقبول من طرف الكثيرين، وصادف أن اطلع عليها صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، في أحد المعارض المدرسية وأعجب بها، يقول العبدان: «كانت أول مرة أرى فيها صاحب السمو حاكم الشارقة وأسلم عليه، وكانت لحظة لها طعمها الخاص وأثرها القوي على حياتي».
- *صدَى
يذكر العبدان – في سياق حديثه عن أهم منعطفات مسيرته ومحطاتها الإبداعية – أنه نظم أول معرض شخصي له في فن الكاريكاتير خلال المرحلة الثانوية في مدرسة العروبة في الشارقة، ووجد صدًى طيباً، حيث تمّت متابعته بواسطة صحيفة الخليج، وكان من نتائج ذلك النشاط الجمالي للعبدان، أن تم اختياره للمشاركة في مهرجان الشباب العربي الذي عقد في العاصمة السودانية الخرطوم عام 1987، حيث قُدمتْ في تلك الدورة ممارسات فنية مميزة لفنانين كبار التقاهم هناك، ونصحه بعضهم بضرورة الالتحاق بجمعية الإمارات للفنون التشكيلية.
كان انضمام العبدان للجمعية، بمثابة الدخول في مرحلة جديدة عمقت من تجربته الفنية، ويقول العبدان عن تلك المرحلة: «تعمقت علاقتي بالفن، وتوثقت لحظة انضمامي لجمعية الإمارات للفنون التشكيلية في عام 1988؛ حيث بدأتُ اكتشاف الفن بالمعنى الأكاديمي؛ إذ إن الجمعية كانت مصدراً للمعارف وتراكم الخبرات، فقد درست، خلال تواجدي فيها، تاريخ الفن وتعرفت إلى تياراته المختلفة، وحينها أصبح التجريب الفني أمراً لابد منه بالنسبة لي كمبدع شاب، فأخذت القيم البصرية والجمالية من مختلف المدارس، وبدأتُ تحسُّسَ السير نحو تكوين ملامح تجربتي الخاصة، فكان أن اشتغلت على الرسم الانطباعي، بعد دروس كثيرة في نقل الواقع والتلوين، واشتغلت فترة ضمن الاتجاهين السريالي والتكعيبي، ثم كانت لي تجربة في فن الكولاج، ثم قدّمت أعمالاً مفاهيمية خارجة عن المفهوم التقليدي للوحة أو المنحوتة».
- *سفر
ويؤكد العبدان على ثراء فترة انضمامه للجمعية، التي توجها بالذهاب إلى الولايات المتحدة لدراسة الفن؛ حيث قضى هناك فترة من الزمن، ولكنه لم يكمل الدراسة هناك، نظراً لظروف شخصية طارئة، فعاد إلى وطنه، ليتوقف عن الإبداع في مجال الرسم لمدة عشر سنوات، وكان ذلك الانقطاع بسبب الاهتمام بمجالات إبداعية أخرى، حيث انشغل بالبحوث في اللغة والأدب والمنطق والموسيقى والشعر، وهي عوالم مازالت تشغل ذهن العبدان، ويوفر لها الكثير من الجهد والوقت؛ لما تتميز به تجربته من تعدد وتنوع وانفتاح على العديد من الأشكال الأدبية والفنية والمعرفية، فهو باحث نشط ودؤوب، متنوع الاهتمامات الثقافية والفنية، قدّم العديد من الدراسات والإسهامات العميقة والمهمة على صعيد التشكيل والموسيقى والشعر، فكان له حضوره البارز والمميز في الساحة الثقافية الإماراتية، تاركاً بصمته الخاصة بوصفه مثقفاً شاملاً.
- *عودة قوية
وبعد ذلك التوقف الذي تحدث عنه العبدان، عاد مرة أخرى لمجاله المحبب، وهو الرسم؛ حيث قدّم مجموعة من اللوحات الكبيرة التي عمل فيها على توظيف قصص خليجية، معتمداً في ذلك على مشاهداته وقراءاته وتأويله للواقع، ولعل ذلك الاتجاه جعل الكثيرين يقومون بتصنيف تلك اللوحات والإبداعات كأعمال تراثية، وهو الأمر الذي كان ينفيه العبدان الذي يقول: «أوضحت مراراً أن تلك الأعمال لم تكن تراثية، إنما هي أقرب إلى رواية قصص محددة من أن تكون توثيقاً للتراث، كما في عملي (مصاصر)، وهو أحد الأعمال التي رسمت فيها رجلين يجلسان في المقهى ويهمسان لبعضهما، وقد رسمتهما بشكل تكعيبي، بحيث يظهران وكأنهما اندمجا في شخص واحد، كما سعيت إلى تقديم أعمال تبين حال الإنسان في هذه المنطقة قديماً، وطبيعة الأعمال التي كان يقوم بها مثل لوحة (الفحام)، وغير ذلك من اللوحات التي قدمتها في تلك الفترة»، وقد اهتم العبدان بالعديد من الأشكال الفنية المختلفة، فإلى جانب الرسم والكاريكاتير، أنتج كذلك لوحات كولاج، وقام برسم العديد من الشخصيات الشهيرة في المجتمع الإماراتي والخليجي.
- *جدل وعلاقات
صار العبدان في الوقت الراهن، يميل أكثر إلى التفكير والتأمل في فهم الفنون والربط بين مجالاتها المتعددة، وهو يقول: «لم يعد لدي ذلك الشغف الكبير في إنتاج العمل، بل فهم الشعر والأدب والفنون، والعلاقة التي تربط بين الأشكال الإبداعية المختلفة، وذلك أمر يؤدي إلى عوالم حقيقية من الاستمتاع بالفن»، ويشير العبدان إلى إمكانية أن تكون هناك – على سبيل المثال – موسيقى انطباعية، حيث إن الإبداع في مجال الانطباعية ليس حكراً على الرسم والتشكيل فقط، وذلك يبين أن هنالك علاقات بين الإبداعات المختلفة من فنون وأدب وموسيقى وفلسفة، ولعل ذلك التأمل والتفكير، لم يفارق التجربة الإبداعية للعبدان، فجميع أعماله هي نتاج عمق فكري وفلسفي وتأمل في الوجود والحياة والطبيعة.
- *إضاءة
يُعدّ الفنان الإماراتي علي العبدان من الوجوه الإبداعية المهمة في الإمارات والخليج، وهو عضو في جمعية الإمارات للفنون التشكيلية، وشارك في العديد من المعارض في الداخل والخارج، إضافة إلى كونه باحثاً وناقداً فنياً، وشاعراً وعازفاً، عمل مديراً لإدارة التراث الفني في معهد الشارقة للتراث، صدر له كتاب حول الحركة الفنية التشكيلية في دولة الإمارات بعنوان «القرن الجديد.. اتجاهات الفن التشكيلي في الإمارات بعد العام 2000»، إضافة إلى العديد من الأبحاث والكتب التي تمحورت حول الفن والشعر والموسيقى العربية، ونال الكثير من الجوائز والتكريمات.