قد يشعر القارئ العربي، عندما يتصفح العدد الخاص الذي أصدرته مجلتا “لير” و”ماغازين ليتيرير” الفرنسيتان وعنوانه “مئة أديبة وأديبة أساسيات”، بحال من الخيبة، إزاء تغييب هذا العدد المتميز للأديبات العربيات وعدم إدراجه سوى امرأة صوفية واحدة من الحقبة الأندلسية هي فاطمة القرطبية أو فاطمة بنت المثنى، التي لم تترك أصلاً قصائد أو نصوصاً مكتوبة. وما كُتب عنها في العدد لا يتخطى مقطعاً صغيراً نشر على هامش مقال آخر، على خلاف الأديبات العالميات اللواتي حظين بصفحات، وهن ينتمين إلى العصور القديمة المتوالية وإلى العصر الحديث، وبعضهن من اليابان والصين وإيران وسواها، علاوة على الدول الأخرى الموزعة بين أوروبا وأميركا وأميركا اللاتينية.
لو لم تكن هاتان المجلتان، هما اللتان أصدرتا هذا العدد الذي يعد مرجعاً مهماً، لما كان أمر التغييب العربي ليبدو ذا شأن أو مدعاة للخيبة والتسآل. مجلة “لو ماغازين ليتيرير” التي اندمجت قبل فترة مع مجلة “لير” لتصبحا مجلة واحدة تحمل الاسمين، هي من أهم المجلات الأدبية الشهرية التي تجمع بين طابع التخصص والطابع الصحافي، في صيغة فريدة، ترضي النخبة مثلما ترضي قراء الصحافة، الباحثين عن الجديد في عالم النشر والأدب والفكر والفن… أما مجلة “لير” فهي مجلة أدبية هدفها وضع عالم الكتب في متناول القراء العاديين والقراء المهتمين والطلاب الجامعيين والثانويين وسواهم. المجلتان إذاً هما اللتان أعدتا هذا العدد الخاص الذي يقع في 200 صفحة، مرفقاً برسوم وصور ووثائق، ما يجعله مرجعاً يُحتفظ به ويمكن أن يصدر في كتاب.
غياب حركة نسائية بكاملها
ما يدعو إلى الأسف ليس تغييب أديبات عربيات فحسب عن العدد، وهذا ما يحصل دوماً في المنابر الدولية، بل تجاهل حركة أدبية وثقافية نسائية رسخت نفسها في العالم العربي بين حركتي النهضة والحداثة، متخطية العقبات والعوائق الكثيرة، الدينية والاجتماعية والسياسية، التي هدفت إلى النيل من حقوق المرأة والحد من حريتها وتطورها والحؤول دون تحقيق طموحاتها وبلورة هويتها الذاتية. وقد تمكنت الحركة النسائية العربية، الثقافية والأدبية، منذ عقود، من إحداث تغيير جذري في النظرة إلى المرأة وترسيخ حضورها في معظم الحقول والميادين.
قد لا يحق للقارئ العربي أن يوجه اللوم إلى المجلة وإدارة تحريرها، ما دامت مجلة فرنسية وتملك سياستها الأدبية والثقافية ورؤيتها إلى الأدب العالمي، ولعلها تظن، أنها في اختيارها المتصوفة الأندلسية فاطمة القرطبية كما تسميها، وشخصية شهرزاد التي انتقتها بصفتها أم الراويات في التاريخ، قد تكون وفت العالم العربي حقه، وجعلته حاضراً ولو تاريخياً.
قد تكون إدارة التحرير أساءت من دون أن تدري ربما، إلى تراث أدبي نسائي، نهضوي وحديث، فرض نفسه في رحاب الثقافة العربية التي غلب عليها، مثلها مثل سائر الثقافات العالمية، الطابع الذكوري. وهذا الإشكال أشار إليه أصلاً رئيس تحرير المجلة باتيت ليجه في افتتاحية العدد قائلاً إن “الأسماء التي تحتل الواجهة منذ قرون والتي صنعت ثقافتنا كانت في غالبيتها من الرجال”. ويضيف: “ولكن يبدو من الصعب إنكار عبقرية عدد من الأديبات. لقد حان الوقت لنضبط الأمور كما يجب، ونشعر بالفخر بالأديبات اللواتي دمغن الإنسانية بفضل كتاباتهن”.
أسماء مهمة
الأسماء النسائية التي اختارتها المجلة مهمة جداً ولامعة في حقولها المتعددة، الروائية والشعرية والمسرحية والفكرية والصوفية وفي الأدب البوليسي والأروسي والفانتاستيكي وأدب الفتيان والروايات المصورة وسواها. ولا يمكن التشكيك في اسم من الأسماء، حتى وإن فاضل القراء بينها وانحازوا إلى كاتبة من دون أخرى. كثيرة هي الأسماء فعلاً ولا يمكن تعدادها وهي معروفة أصلاً في المشهد الأدبي العالمي، القديم والحديث، وتمثل طليعة الإبداع النسائي على مر القرون. روائيات لا يمكن البتة نسيانهن: جاين أوستن، مارغريت يورسونار، ناتالي ساروت، دوريس ليسينغ، سيمون دو بوفوار، فيرجينيا وولف، أناييس نين، فرانوساز ساغان، ماري شيللي، كارن بليكسن، جويس كاول أوتس، مارغريت أتوود، ألفريده يلينيك، توني موريسون وسواهن، إضافة إلى كاتبات نلن جائزة نوبل للأدب. وكذلك شاعرات مثل: سافو الإغريقية، إميلي ديكنسون، ماريا تسفتيافا، غابريللا ميسترال، سليفيا بلاث وسواهن. أسماء أيضاً في حقل الفلسفة والتصوف: هيلديغارد دو بينغن، هيباتيا الإسكندرية، سيمون فيل، حنة أرندت وسواهن.
وما يدعو إلى التساؤل مثلاً، حضور كاتبات مثل هيلين سيكسو وإميلي نوتومب وماري نداي وإدي سميث وشيمامندا نغوزي أديشي وياسمينا ريزا، قد تنافسهن كاتبات عربيات وتتخطاهن في الرواية والفكر والنقد، ومنهن على سبيل المثل: آسيا جبار، فاطمة المرنيسي، نوال السعداوي، أهداف سويف، وروائيات بارزات معروفات وأعمالهن مترجمة إلى لغات عالمية.
شهرزاد أم الراويات
اللافت إيراد اسم شهرزاد، نجمة “ألف ليلة وليلة” التي أنشات فن القص والقص داخل القص، وبهرت وما زالت تبهر، كل أهل السرد والنقد في العالم قاطبة، وتركت أثراً عميقاً وفاعلاً في فن الرواية وفي الذاكرة السردية ومفهوم التحرر النسائي على مر القرون. ولكن لا يمكن شهرزاد التي تعد شخصية متخيلة ومركبة، أن تكون عربية، فهي موزعة مثل “ألف ليلة وليلة” نفسها، بين الهند وبلاد فارس والتراث العربي، مع أن هذا الكتاب السحري والعجيب سمي حين ترجم إلى الأجنبية بـ “الليالي العربية”. هل ظنت إدارة المجلة أنها باختيارها شهرزاد، تكون قد وفت العالم العربي حقه؟
أما إيراد شخصية هيباتيا الإسكندرية فلا يعني بتاتاً أن مصر العربية حظيت بالتفاتة خاصة في العدد، فهذه الشخصية كانت إغريقية الأصل ورومانية وعاشت في الإسكندرية في القرن الرابع الميلادي. فيلسوفة تخصصت في الفلسفة الأفلاطونية المحدثة، واتبعت النهج الرياضي لأكاديمية أفلاطون، وهي تعد أول امرأة في التاريخ يلمع اسمها كعالمة رياضيات، مثلما لمعت في تدريس الفلسفة وعلم الفلك. عاشت هيباتيا في الحقبة الرومانية، وماتت على يد جمع من المسيحيين بعد اتهامها بممارسة السحر والإلحاد والتسبب في اضطرابات دينية. وكان المسيحيون هم أقوى المنافسين لفلسفة هيباتيا، وقد رفضوا رسمياً مواقفها الأفلاطونية حول طبيعة الإله والحياة الأخرى. وكانت تعد نفسها أفلاطونية محدثة، ووثنية، ومن أتباع أفكار فيثاغورس. وكتب عنها الكثير في لغات عدة وجعل الروائي المصري يوسف زيدان من سيرتها مادة روائية في “عزازيل”.
فاطمة القرطبية
اختارت إدارة المجلة شخصية المتصوفة فاطمة القرطبية أو فاطمة بنت المثنى التي كان ابن عربي ذكرها في سفره الضخم “الفتوحات المكية”، وفضلتها مثلاً على رابعة العدوية، الشاعرة المتصوفة المعروفة جداً في العالم الغربي وفي فرنسا تحديداً، جراء ترجمة أشعارها وصدور كتب عدة عن سيرتها وتجربتها الصوفية الفريدة. تعد فاطمة معلمة ابن العربي وشيخته، ونهل على يدها بعضاً من علم الزهد والورع، مع أنها لم تترك أثراً مكتوباً ولم يترك التاريخ شواهد وكتباً التي توثق حياة الشيخة العابدة. لكنّ ما ذكره ابن عربي في مؤلفاته عنها وعن كراماتها كان كفيلاً بأن يخلد اسمها في سجلات أعلام الصوفية والزهد. ويقال إنها أثرت في نظرته إلى المرأة، هو الذي قال: “كل ما لا يؤنث لا يعول عليه”.
يقال إن فاطمة ولدت في إحدى ضواحي قرطبة، لأسرة فقيرة، وعرف عنها منذ صغرها الزهد والتقشف والإكثار من العبادة. عملت في الحياكة لتكسب قوت يومها، وتزوجت في سن صغيرة. أصيب زوجها بمرض الجذام في مطلع عهد الزواج، فلم تتركه، وظلت بجواره قرابة خمسة وعشرين عاماً حتى وفاته. ثم أبتليت في يديها، ما جعلها شبه عاجزة عن أداء عملها. لم تطلب معونة من أحد واكتفت بالبحث عن قوتها من بقايا الطعام في الشوارع وعلى جانب الأبواب. لم يؤثر الفقر في مسلكها الديني، فواصلت زهدها حتى أصبحت شاغل المدينة، ومن ثم قبلة الباحثين عن الزهد والتعبد في قرطبة.
وبعدما التقاها ابن العربي عابرة في الشارع، تعرف إليها وسمح لنفسه، هو العالم الكبير الذي تلقى تعاليمه على يد العلماء وأقطاب الصوفية، أن يتأثر بها تأثراً عميقاً، على رغم قصر الفترة التي تلقى فيها العلم على يديها والتي لم تتعد العامين.
www.independentarabia.com