في زمننا الراهن بات الكل يمثّل. ليس من الضروري أن تكون مهنتك مُشخّصاً، ولا أن تكون منتمياً لنقابة الفنانين. مديرك يمثّل عليك، والواعظ والسياسي ومقدم برامج التلفزيون والجزار وبائع الخضراوات والبواب وحارس المرأب وصاحب العمارة وسائق سيارة الأجرة. لم يعد التمثيل يستدعي موهبة، بل هو عُدة من عُدد العيش، مثل شاكوش النجار وسماعة الطبيب التي في طريقها للانقراض.
لكن هناك مسافة بين زعيم يمثّل ليحتفظ بزعامته وأنصاره، وبين وزير يصعد على المسرح ليقدم عرضاً شائقاً. وقد فعلها جان لوي دوبريه، وزير الداخلية الفرنسي الأسبق ورئيس الجمعية الوطنية، أي البرلمان. وهو سيقف على خشبة مسرح صغير في حي مونبارناس لكي يؤدي، مع شريكة حياته، دوراً في عرض بعنوان: «هؤلاء النساء اللواتي أيقظن فرنسا». يقتني المواطن تذكرة بيوروات معدودة ويتفرج على الوزير وزوجته في سلّة واحدة.
رأينا وزراء يرسمون ويقيمون المعارض التشكيلية، وأمراء يتنافسون في بطولات أولمبية، ورؤساء يكتبون القصص والروايات، وقادة يغنّون ويرقصون، وسياسيين يتنكرون بوجوه مهرجين. لكن القفزة من زحام الواقع إلى مسرح الخيال تحتاج، على بساطتها، جرأة وقدرة على المواجهة. لا يمكن للزعيم أن يقف على الخشبة محاطاً بطاقم حراسته وبأولئك العماليق ذوي النظارات القاتمة والبدلات السود، يخفون في أحزمتها أسلحة جاهزة. يمكن لهؤلاء أن يقفوا وقفة استعداد وراء الستارة، أو أن يجلسوا بين المتفرجين، لكن الابتعاد قيد أنملة يبقى غير مضمون. ماذا يحدث إذا استغل أحد المشاهدين الظلام المخيم على الصالة وصرخ بشتيمة مقذعة ضد الوزير الواقف على المسرح؟
دوبريه وزير متقاعد. وهي صفة لا تناسبه لأن أمثاله لا يعرفون السكون. لا يطيقون فراق الأضواء. لقد كان أبوه رئيساً للوزراء. وجده الأكبر حاخاماً أعلى. وبهذا فإنه ولد لكي يجري في ملعب الكبار. لكن ضغطاً في عموده الفقري عرقل مسيرته الدراسية فلم يحصل على الثانوية العامة. وكان أن نصحه أحد أصدقاء العائلة بالتقدم للحصول على شهادة في القانون لا تتطلب اجتياز امتحان البكالوريا. تخرّج وتدرج في عشرات الوظائف المهمة. كان قاضياً ورئيساً لبلدية ومساعداً لعمدة باريس ونائباً ومستشاراً لشيراك ووزيراً للداخلية ومكلفاً بمهمات خاصة كثيرة. إن صفحة سيرته الذاتية أطول منه. وهو عندما ترك رئاسة البرلمان وجد في انتظاره رئاسة المجلس الدستوري. وعندما ترك المجلس تفرغ لتأليف كتاب بعنوان «ما لم أستطع قوله»، حرر فيه لسانه من التكتم المقرر على منصبه الأخير.
من هن النساء اللواتي يرى دوبريه أنهن أيقظن فرنسا؟ لقد سبقت له الكتابة عنهن. وها هو يُمسرح نصه السابق، ويجعل منه حواراً يدور بينه وبين شريكته الممثلة فاليري بوشنيك. يتحدثان سوياً عن شخصيات تاريخية قلبت واقع المرأة الفرنسية من حال إلى حال. الكاتبة جورج صاند التي استعارت اسم رجل، وأولمب دو غوج المناضلة التي أصدرت شرعة لحقوق النساء في القرن الثامن عشر، ولويز ميشيل التي كانت من وجوه كومونة باريس، والنحاتة الرائدة كامي كلوديل، وعالمة الفيزياء ماري كوري التي نالت «نوبل» مرتين.
على المسرح سيكون جان ميشيل دوبريه بطلاً. وهو دور لم يُتح له في حياته الواقعية. ظل ذلك السياسي المبتسم المتحفظ. الممثل «السنّيد»، الذي يحوز ثقة رؤسائه فيعتمدون عليه. لم يتنافس على الرئاسة ولم يترشح لها. وهو اليوم بكامل حيويته في ربيعه السادس والسبعين، يرفع قبعته مؤدياً تحية مسرحية للنساء… مالكات مفاتيح الأزمنة الحديثة.
جريدة الشرق الأوسط