لم تكن الرحلة التي خاضها الروائي الجزائري واسيني الأعرج في طريق اكتشاف براءة الأديبة الفلسطينية اللبنانية مي زيادة من تهمة جنونها سهلة على الإطلاق. بين فرنسا، لبنان وفلسطين، ثم مصر دارت عجلة المغامرة. حين بدأت بعبارة لمي زيادة تقول “أتمنى أن يأتي بعدي من ينصفني” التي أحس فيها الأعرج بشيء ما يخاطب ذاته كما أكد في إحدى الندوات التي عقدها في مدينة القاهرة قبل أيام، حول “ليالي إيزيس كوبيا: ثلاثمئة ليلة وليلة في جحيم العصفورية” هذا العنوان الذي حمل تحته حكاية مي زيادة كاملة مع العصفورية التي أُجبرت على دخولها في جريمة تعرضت لها الأديبة من قبل أقرب الناس إليها.
الكشف عن تفاصيل شيقة
ينكر الأعرج من خلال روايته فكرة جنون مبدعة مثل زيادة، حيث تؤكد كل الدلائل التي توصّل إليها من خلال المصادر العديدة في بحثه عن مخطوط زيادة الخاص بفترة حجزها في العصفورية، أو مستشفى الأمراض العقلية في بيروت، أن من أوصلها إلى ذلك العالم المظلم المليء بالقهر لم يكن إلا حبيبها الحقيقي وابن عمها يوسف “جوزيف” زيادة، الذي أحبته صغيرة قبل أن يلتفت إلى مصالحه مسافرا إلى فرنسا حيث الحب الجديد والاستقرار مع زوجته الفرنسية الأمر الذي أحدث جرحا بليغا لديها لم تشف منه طوال حياتها.
ورغم ذلك فإن ابن العم كان أول من خطر في بال زيادة بعد وفاة والديها وصديقها الروحي، جبران خليل جبران، وبقائها غريبة في مصر، حيث لم تجد بدا من مراسلته في فرنسا طالبة منه الحضور للوقوف بجانبها، راسمة ذاك العالم الوردي في ابن عمها الذي ربما تستعيد حبه من جديد بعد كل تلك السنوات.
حملها جوزيف إلى بيروت في أيام كانت أشبه بالحلم الذي تحول سرابا، ومع مضي الأشهر صار البقاء في بيروت قاتلا بالنسبة لها، طلبت منه السفر فماطل إلى أن أنهى إجراءات خداعها ونقلها إلى العصفورية.
خيانة المثقفين
تقول مي “قلت له إني أرغب في الرجوع إلى بيتي، فأنا بخير ولا أحتاج إلى شيء، فطيب خاطري ببعض الكلمات، وأبقاني عنده شهرين ونصف شهر على مضض مني، وأنا أطالبه بالعودة، حتى استكمل برنامجه في أمري، فأرسلني إلى العصفورية، بحجة التغذية وباسم الحياة ألقاني أولئك الأقارب في دار المجانين أحتضر على مهل”.
زاوية مهمة من المجتمع الشرقي في تلك الفترة ينبش فيها الأعرج، تتعلق بظلم المرأة والنظرة الدونية لها، مهما علا شأنها الثقافي والعلمي، مشيرا في سرده لمأساة زيادة، إلى ظلم شديد تعرضت له من أقاربها كان مبنيا على رغبتهم في السيطرة على ثروتها التي تركها لها والدها بعد أن بقيت العائق الوحيد أمامهم في سبيل ذلك بعد موت أخيها وهنا تقول زيادة “أدركت بسرعة أنهم كانوا يريدون التخلص مني بعد أن نزعوا مني البذرة الأخيرة في حبهم، أصبحت حذرة في كل شيء ومع الوقت بدأت أشك في نواياهم، لا آكل إلا مما يأكلون أنتظر حتى أن يشرعوا في الطعام، ولا أشرب إلا مما يشربون، عائلتي الحقيقية انتهت بموت أمي، بعدها الفراغ مظلم، كنت امرأة بلا متكأ أسند جسمي المتعب عليه بثقة، أنام قليلا وأرى كثيرا، ربما كانت تلك أولى علامات الجنون”.
ولتكتمل المأساة فإن هجر الأصحاب وتأكيد بعضهم على فقدان زيادة لعقلها كانا أكثر ما يوجعها في مذكراتها، ناهيك عن تمرد الصحافة عليها واتهامها بالجنون وغياب العقل نتيجة الحساسية المفرطة والكآبة التي تدهورت مع الوقت، حيث لم يتبق لها سوى صحيفة “المكشوف” ورئيس تحريرها فؤاد حبيش الذي تصدر للدفاع عن مي زيادة وإنكار التهمة الموجهة إليها بالجنون، والتي تبنتها الصحافة بقوة دون الرجوع إلى زيادة أو زيارتها في محنتها، وهي تقول في ذلك “لقد كان على الصحافيين في لبنان، إن لم يكن إكراما لي، إكراما لوالدي أن يبدوا شيئا من الاهتمام أو شيئا نحو زميلتهم وابنة زميلهم وأن يسألوا عنها أو يقوموا بزيارتها، عندما سمعوا خبرا عنها لمعرفة مبلغ ما في الخبر من صحة”.
ولعل أكثر ما سبب الأوجاع لزيادة خلال الحجز في المصح العقلي ما عانته من تبدل الأصحاب الذين طالما اجتمعوا في صالونها الثقافي في القاهرة متبادلين النقاشات الثقافية، لاهثين خلفها حبا وطمعا برضاها الذي لم يكن لأحد بعد أن امتلأ قلبها منذ سنوات.ويؤكد ذلك ما جاء في مذكراتها عن تلك المحادثة مع عميد الأدب العربي طه حسين، التي أوردها الأعرج في روايته الأخيرة بنصها الحرفي “كيف تخسر وقتك الثمين يا دكتور على امرأة فقدت عقلها بسبب عصاب مزمن لاحظه فيها الجميع لكن لا أحد نصحها؟ كانت تنرفز بسرعة. ألم تصرح بهذا في بعض الصحف المصرية واللبنانية يا دكتور؟ الكلام ضخم قليلا لم أقل هذا قلت متعبة شوي وتحتاج إلى قسط من الراحة ووضعها يمكن أن يكون تعقد لا أكثر، ثم إن العصفورية يدخلها الإنسان مجنونا يخرج منها عاقلا، ويدخل إليها عاقلا، يغادرها مجنونا، أتمنى لكل أصدقائي الذين نسوني، ليلة تدريبية واحدة في العصفورية فقط، وبعدها نحكي”.
تدخل أميري وسياسي
لم تكن زيادة وحدها على أي حال، هذا ما تثبته الوثائق التي تم العثور عليها ومذكراتها التي شرحت كيف تدخل أعيان الشام، وعلى رأسهم الأمير سعيد الجزائري حفيد الأمير عبدالقادر الجزائري الذي تدخل لدى الديوان الأميري للأمير عبدالله بن الحسين، طالبا منه إنقاذ مي زيادة من العصفورية، فأرسل بدوره رسالة مناشدة لإيميل إده الرئيس اللبناني في ذلك الوقت جاء فيها “ما كنت لأتدخل بأمر أحد رعايا لبنان لولا الرجاوات العديدة من كرام العوائل ورجالات العلم والأدب من لبنان لأكون الملتمس عنهم لدى فخامتكم لتساعدوا الآنسة الشهيرة مي لخلاصها من المأزق الذي قيل إن البعض من أقاربها وضعوها فيه، وللأمل في أنكم تحلون كتابنا هذا محل قبول”.
ليجيء رد الزعيم اللبناني إده على الشكل التالي “حضرة صاحب السمو الملكي الأمير عبدالله بن الحسين المعظم، أمير المشرق العربي، تناولت كتاب سموكم الذي كان له أفضل الأثر في نفسي لما تضمنه من الشعور السامي والعطف على سيدة لبنانية من كبيرات سيدات العلم والأدب، وأحللت هذه الرعاية المحل الذي تستحقه، ولما كنت أثق كل الثقة بنزاهة القضاء اللبناني وتدقيقه في إحقاق الحق، فلا شك أنه سيتخذ في يوم 3 مارس القادم القرار الذي يؤيده العدل ويحله محله في هذه القضية راجيا أن تتفضلوا بقبول أصدق عواطف الولاء والاحترام”.
ولا تنسى زيادة في مذكراتها فضل السياسي السوري فارس الخوري الذي وكّل لها المحامي والوزير السابق حبيب أبوشهلا للدفاع عنها أمام المحاكم اللبنانية، ذاكرة كلماته أمام أعضاء مجلس النواب، حين أكد أن ما حدث لها ليس إلا جريمة كبرى ضد العقل والمرأة مؤكدا أنه ليس إلا مؤامرة ضد نابغة من نوابغ لبنان مشددا على ضرورة إنقاذها من العصفورية.
طريق البراءة
كانت معضلة زيادة ذلك الوقوف المخيف أمام القاضي المتعنت لرأيه بشارة الطباع، حيث حذرها أبوشهلا وفؤاد حبيش من خشية أن يكون وقوفها مربكا ومتعبا لها خصوصا أن المحكمة ستسعى لذلك لإثبات صحة الادعاء، ليقترح عليها حبيش إلقاء محاضرة ثقافية في قاعة “الويست هول” في الجامعة الأميركية عن أي موضوع تختاره بالتعاون مع جامعة العروة الوثقى التي أعلنت بالفعل عن الدعوة لمحاضرة تلقيها الآنسة مي زيادة بعنوان “رسالة الكاتب في الوطن العربي”، وكان مما قالته فيها إن “رسالة الأديب تعلمنا ألا نخشى الكارثة ولا نتهيب المغامرة، حيث لا يعرف شأن ذي الشأن إلا يوم الكريهة، والعاصفة لا تقتلع إلا ضعيف الأغراس أما الأشجار الحيوية، العصية، فالأعاصير تهزها هزا عنيفا، فلا تزيدها إلا قوة ومناعة”.
كانت المحاضرة الطريق السلس لإلغاء الحجر والخروج من تهمة الجنون، حيث صدر القراء عام 1938، بأن “صحة الآنسة مي زيادة الجسدية ممتازة، والنشاط طبيعي والأعمال تتم بصورة حسنة وعليه فإنها قادرة على حياة مستقرة”. كان القرار نهائيا يعلن براءة مي زيادة من الجنون ونهاية ثلاثمئة ليلة وليلة في جحيم العصفورية.
ولعل موقف الأديب اللبناني أمين الريحاني مع زيادة والذي دونه في كتابه “قصتي مع مي” من أبرز الحكايات القائمة على العشق والمودة، والمجبولة في الوقت ذاته بالاحترام الكبير، الذي سطره الريحاني في دفاعه المستميت عنها، رغم تأخره، في محنتها، فضلا عن رعايتها بعد الخروج من العصفورية، وصولا إلى سكناها قربه في بيت الجبل، الذي وعدها به، قبل أن تسافر إلى القاهرة حيث توفيت في التاسع عشر من أكتوبر عام 1941.
في هذا البحث المثير يحاول واسيني الأعرج الوقوف على عتبة طريقي الرواية والتأريخ، مؤكدا أن رواية مي زيادة لم تكن إعادة لإنتاج التاريخ، لأن ذلك ليس وظيفة روائية، بل هي محاولة لجمع تلك الشذرات الضائعة من مذكرات الأديبة العربية الفذة، وتحويلها إلى عمل روائي يترك بصمة في الفن والأدب ويحاول أن ينصفها بعض الشيء، من منطلق إنصاف المرأة العربية عموما في مجتمع يستكثر عليها أن تنجح في أي مجال من المجالات، مؤكدا أن الخلط بين التاريخ والعمل الإبداعي يؤدي في النهاية إلى الفشل بكليهما، فالتاريخ لا يستخدم إلا في إطاره الإبداعي لدى الراوي.
صحيفة العرب