«هل تعرفين النكتة الإيرانية الشهيرة؟» قالت لي نيلوفر باستهجان؛ «في عهد الشاه كنا نشرب علناً ونصلي سراً، أما اليوم في ظل الجمهورية الإسلامية، فأصبحنا نشرب سراً ونصلي علناً».
هكذا لخصت الصحافية والكاتبة، من أب إيراني وأم فرنسية، دلفين مينوي الوضع في إيران، بعد عقدين تقريباً من قيام ثورة الخميني، التي حولت إيران إلى دولة ملالي تحكمها ولاية الفقيه.
جاءت مينوي، التي تحمل الجنسية الفرنسية، إلى طهران ساعية إلى اكتشاف بلد أجدادها، مع بوادر نجاح حركة الإصلاحيين التي قادها محمد خاتمي، الذي انتخب رئيساً عام 1997 بناءً على برنامجه الإصلاحي، واعداً بمجتمع ديمقراطي أكثر تسامحاً، وتفعيل سيادة القانون، وتحسين الحقوق الاجتماعية، لكنها اكتشفت أن التيار المتشدد أكثر شراسة وقوة مما توقع المتفائلون بتصحيح مسار الثورة.
فعقب تولي خاتمي الرئاسة واجه معارضة شرسة من خصومه الأقوياء داخل مؤسسات الدولة غير المنتخبة، التي لم يكن لخاتمي أي سلطة قانونية عليهم، مما أدى إلى وقوع مصادمات بين حكومته وهذه المؤسسات، ومن بينها مجلس الأوصياء، والتلفزيون والإذاعة الرسمية، والشرطة، والقوات المسلحة، والقضاء، والسجون.. وغيرها.
دلفين مينوي وثّقت تجربتها عن الحياة في إيران لمدة عشر سنوات، وأصدرتها في كتاب تحت عنوان «أكتب لكم من طهران».
في هذا الكتاب سجلت مينوي حالة الغليان المستمر، والتقلبات الاجتماعية والسياسية الكبيرة، التي عاشتها إيران منذ الثورة التي أطاحت بالشاه أواخر السبعينيات من القرن الماضي، ومن ضمنها الحركة الخضراء، التي كان لها ضحايا كثيرون، منهم صديقتها المتمردة نيلوفر التي اختفت فجأة، ولم تعرف لها طريقاً حتى التقتها صدفة، بعد سنتين من اختفائها، في واحدة من تلك الأمسيات التي تلتقي فيها الطبقة المثقفة في إيران، حيث يتناقش الحضور حول كل شيء تقريباً حتى الفجر، ولم تستطع أن تتعرف عليها في البداية.
(كانت هناك، واقفة أمامي في الجسد، ولكنها بدت مختلفة للغاية! شعرها البني الغزير والحريري تحول إلى رمادي. وجهها كان متعباً، وخددت الجيوب محيط عينيها، وفقدت ما لا يقل عن عشرة كيلوغرامات من وزنها.
«اشتقنا لك» قلت على نحو أخرق مُحرَجة من فكرة أن أسألها أين كانت طيلة تلك الأشهر. تلفتت حولها يُمنة ويُسرة كما لو كانت تتأكد من عدم وجود آذان تتلصص على حديثنا. «اعتقلوني على خلفية أحداث تموز/ يوليو 1999» همست لي بجملة واحدة. «وبعد ذلك؟» سألتها من بين أسناني.
«ألقوا بي في السجن، وحُكِم عليّ بخمس سنوات… لا بد لي من أن أروي لك» همست نيلوفر؛ «إنها قصة طويلة، لكنني أفضل عدم التحدث عنها طالما أنا في إيران، فللجدران آذان»). هكذا وصفت مينوي لقاءها بنيلوفر بعد اختفائها الغامض ذاك.
بعد شهرين تقريباً، وعلى بُعْدِ أربعة آلاف كيلومتر، وإلى طاولة في مقهى صغير على شاطئ البحر، تحت سماء اكتسبت لوناً وردياً عند الغروب وهي تداعب كورنيش «برومناد ديزانغليه» في نيس الفرنسية، حكت نيلوفر لدلفين ما تعرضت له خلال فترة اختفائها، وروت مشاهد رهيبة مما حدث للطلبة المحتجين في الحرم الجامعي بطهران، وكيف انهالت عليهم العصي وضربات السكاكين، وكيف صرخ في وجهها شرطي عند رؤيته للكاميرا في يدها، وسألها إن كانت صحافية. ودون أن تتاح لها فرصة الرد، شعرت بأيادٍ تقبض عليها بعنف، حاولت مقاومتها دون جدوى.
وذكرت كيف ألقي بها في زنزانة انفرادية في سجن التوحيد، وتحدثت عن أنواع التعذيب الذي مارسوه ضدها أثناء التحقيق، قبل أن يحولوها إلى محكمة ثورية حكمت عليها، بعد خمس دقائق من جلسة الاستماع، بخمس سنوات من السجن؛ سنتين مع النفاذ، وثلاث مع وقف التنفيذ.
«والآن وقد أصبحت حرة من جديد، ماذا تنوين أن تفعلي؟» سألتها دلفين.
«أعرف أن يديّ مقيدتان في إيران. لقد جعلوني أوقع على وثيقة أتخلى بموجبها عن ممارسة أي نشاط سياسي عند إطلاق سراحي من السجن. ومع ذلك، أخطط للعودة في أقرب وقت ممكن. مكاني هو هناك. أريد أن أكون مع ناسي، أن أشم تراب بلدي، أن أذهب لزيارة قبر والديّ». أجابت نيلوفر.
«أكتب لكم من طهران» سيرة روائية عن أحداث عاشتها صحافية فرنسية من أصول إيرانية في طهران قبل عشرين عاماً، فمن يكتب لنا عما يحدث في إيران الآن؟
جريدة البيان