نعم، لكل حاجة ووسيلة تقاليدها في الاستعمال. فلهاون القهوة مثلا ثروة من الأعراف والتقاليد. أين يوضع من الخيمة؟ متى يبدأ طحن القهوة فيه؟ كيف يتم الدق؟ بأي إيقاع يجري؟ وهلم جرا. يقال مثل ذلك عن الحذاء… أين يوضع؟ متى نلبسه ومتى ننزعه؟ كيف يتحول إلى سلاح في المعركة؟ من يستحق الضرب به على رأسه؟ ماذا نقول له عندما نضربه؟ كيف نعتذر له بعد أن نندم على ما فعلنا؟ لكل ذلك تقاليد وأصول. وبالطبع نمت هذه الأصول وجرى صقلها عبر قرون من التعامل والتضارب بالأحذية والنعالات والمداسات.
بيد أن العصر الحديث عصر السرعة، وداهمنا فجأة، ومن يوم إلى يوم، بشتى الوسائل الجديدة دون أن يترك لنا وقتاً لتطوير تقاليد صحيحة لها. لنأخذ مثلاً التلفزيون. المفروض أننا نشغّله فقط عندما يكون هناك برنامج تهمنا مشاهدته. ونغلقه عندما يزورنا شخص لنعطي لأنفسنا الفرصة للترحيب به ونعطيه الفرصة ليحدثنا عما جاء به. ولكن هذا لم ينطبق على الواقع. نهم فنفتح التلفزيون عندما يبدأ البث ونتركه يهدر حتى ينقطع.
وفي لندن أعاني من زيارة البيوت العربية. ففيها اعتاد صاحب البيت على فتح التلفزيون والراديو وأحيانا المسجل أيضاً في آن واحد. يجلس بينها ويده اليمنى على زر التلفاز واليسرى على زر الراديو. يخفض صوت هذا آناً ويرفع صوت الآخر ثم يخفض صوت الآخر ويرفع صوت الأول… كما يفعل قائد الأوركسترا. وفي أثناء ذلك يحدثني أيضاً ويسألني عن هذا وذاك. ما إن أتشجع للجواب إلا ويرفع صوت الراديو فوق صوتي.
هذه إهانة ليست فقط لي، بل وللمتكلم من الراديو أيضاً. ولهذا امتنع أحد الأدباء عن المشاركة في القنوات دفعاً للإهانة.
فتح الراديو أو التلفزيون إهانة بشعة للضيف. وفي هذا يسخر الإنجليز من بخل الاسكوتلنديين فيقولون: عندما تذهب لزيارة رجل إنجليزي يفتح لك قنينة شراب، وعندما تذهب لزيارة رجل اسكوتلندي يفتح لك التلفزيون.
وهي ليست مجرد إهانة، وإنما هي مصيبة أيضاً تهد الأعصاب وتربك القلب. وقد سمعت – والعهدة على القائل – أن أحد العلماء أقدم على حل هذه المشكلة باختراع جهاز صغير مصمم لأبناء الطبقة المتوسطة في الشرق الأوسط، تضعه في جيبك، ما عليك وأنت ترى مضيفك يفتح التلفزيون دون أن يسألك غير أن تضغط على زر الجهاز في جيبك فتخمد أنفاس التلفاز. وعندئذ يحاول الرجل إعادة الحياة إليه فيعيا عن ذلك فيسلم أمره لله ويرضى بنصيبه من الحياة فيستمع إليك. المهم ألا تدع الآخر يعلم عن سر هذا الجهاز. ولكن لا تنس وأنت تستأذن بالانصراف فتضغط على الزر ثانية فيعود التلفزيون للعمل. «يا سبحان الله»! يقول الرجل مندهشاً.
شكراً للعالم الذي أعطانا هذا الجهاز الذي صمم للعالم العربي، ولكنه لم ينتشر بيننا وبقي الناس يعانون من مضايقات زعيق التلفزيونات والراديو، وتمزيق أي فرصة للتفكير والحوار المفيد وأنت تزور أصحابك.
جريدة الشرق الاوسط