نعلم أنّ المبدعين الأميركيين الكبار، شعراء كانوا أم روائيين أم سينمائيين، بادروا ويبادرون دائما بنقد سياسة بلادهم سواء في المجال الداخلي أم في المجال الخارجي. وهذا ما قام ويقوم به البعض من المخرجين الكبار. ففي الأفلام التي ينجزونها هم ينتقدون السياسة الأميركية، معتبرين الحروب التي خاضتها بلادهم في فيتنام، وفي العراق، وفي أماكن أخرى خاطئة وظالمة.
ومنذ أحداث سبتمبر 2001، ظهرت العديد من الأفلام الرائعة، متخذة من الإرهاب موضوعا أساسيا لها. وفيلم “بابل” للمخرج أليخاندرو غونثاليث واحد من الأفلام التي شاهدها الملايين في جميع أنحاء العالم. ويرسم الفيلم المذكور صورة آسرة لكلّ المظاهر السلبيّة التي جاء بها عصر العولمة. وتدور أحداثه في أماكن مختلفة: جنوب المغرب المفتوح على الصحراء، والعاصمة اليابانية طوكيو، والحدود الفاصلة بين المكسيك والولايات المتحدة الأميركية. لكن من هي الشخصيّات الرابطة بين هذه الأماكن؟
الشخصية الأولى ياباني من الطبقة المترفهة يعيش في قلب طوكيو مع ابنته المراهقة الصماء البكماء المفجوعة بانتحار والدتها. وذات يوم يقرّر هذا الياباني السفر إلى المغرب ليمارس هواية الصيد في الصحراء. وهناك يتعرف على بدوي مغربي، ويتخذه مرافقا له. وفي نهاية رحلته يهديه بندقيته. غير أن البندقية سرعان ما تسقط في يد طفل كان يرعى الماعز بصحبة أخيه في الجبل الصحراوي الأجرد. ويحدث أن يصوّب الطفل البندقية باتجاه الطريق المعبد ليصيب سائحة أميركية كانت في حافلة مارّة من هناك. وفي الحين ينتشر في جميع أنحاء العالم خبر يقول إن جنوب المغرب شهد عمليّة إرهابيّة من تدبير أصوليين متطرفين.
ويكشف لنا الفيلم أيضا معاناة المهاجرين المكسيكيين، وقسوة الشرطة الأميركيّة تجاههم. وبمثل هذه المهارة، وهذا الذكاء تمكن المخرج من تقويض نظريّة الإدارة الأميركية التي تؤكد أن الحرب ضدّ الإرهاب هي الهمّ الأساسي بالنسبة للإنسانيّة جمعاء. أما ما تبقى من مشاكل وقضايا فتظلّ ثانويّة.
ويتخذ فيلم “واجب مدني” للمخرج جاف رونفرو من الإرهاب موضوعا أساسيا هو أيضا. بطل هذا الفيلم شاب أميركي شيئا فشيئا يصبح أسيرا لخطابات الرئيس المضادة للإرهاب. لذلك يشرع في مراقبة حركات وسكنات جاره، الطالب الفلسطيني الذي يدرس الكيمياء في الجامعة. وهو يواظب على المراقبة في الليل كما في النهار ليصبح مع مرور الوقت متيقّنا أن الشاب الفلسطيني بصدد الإعداد لعمليّة إرهابيّة في غاية الخطورة. وبسبب عناده، وتمسكه بقناعته، تهجره زوجته الجميلة فيلجأ إلى الـ”F.B.I”.
ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل ينسل الشاب الأميركي ذات ليلة إلى شقّة الطالب الفلسطيني بحثا عن أدلّة تمكّنه من إدانته. وعندما يعلمه ضابط من الشرطة أن العمل الذي يقوم به يتنافى مع الدستور الأميركي، وبالتالي يمكن أن يسبب له مشاكل مع القضاء يقتحم شقة الطالب الفلسطيني، ويقيّد ساقيه ورجليه. وشاهرا مسدسه في وجهه، يخضعه لاستنطاق مؤلم، آمرا إياه بالاعتراف بأنه يخطط لعمل إرهابي. ولا تتمكن الشرطة من القبض على الشاب الأميركي إلاّ عقب جهود مضنية. وفي النهاية تقوده إلى مصحّة عقليّة.
وما أظن أنّ مخرجي الفيلمين المذكورين يرغبان في التقليل من مخاطر الإرهاب. غير أن الرسالة التي يرغبان في تبليغها للشعوب، كما للحكومات، تؤكد أن الإرهاب معضلة عالمية حقيقية، إلاّ أنه من الأفضل معالجة أسبابه، ودوافعه، والتصدي له بعيدا عن التشنج، وعن كلّ ما يمكن أن يغذّي الأحقاد والضغائن بين الشعوب، ويعمّق الخلافات بين الثقافات وبين الأديان.
صحيفة العرب