لم تكن بداية ذلك النهار توحي بما آل إليه الوضع في نهايته، فقد كان طقس بحيرة «نووا» القريبة من مدينة «براشوف» الواقعة على مسافة ثلاث ساعات بالسيارة من العاصمة الرومانية «بوخارست» في ذلك اليوم رائعاً.
صحيح أن غيوماً بيضاء قليلة كانت تغطي أجزاء متفرقة من السماء، والشمس تظهر من بين تلك الغيوم وتختفي بحركة شبه منتظمة، لكن حالة الطقس في أواخر شهر يوليو ليس من بين تنبؤاتها انهمار مطر من النوع الذي يتطلب اتخاذ احتياطات مسبقة من قبل مرتادي البحيرة، لذلك كان المنتشرون حولها يرتدون ملابس صيفية خفيفة، وكان أغلبهم من ساكني المنطقة الذين يبحثون عن الهدوء، أو طلبة يستغلون أيام إجازتهم المدرسية في ممارسة ألعاب مغامرات توفرها لهم مدينة الألعاب الواقعة أمام مدخل البحيرة، أو زائرين يبحثون عن الجمال في أحضان الطبيعة.
كانت الساعة تقترب من الثالثة عصراً عندما وصلا إلى البحيرة، عروس تخطر في ثوب زفافها الأبيض، وعريس يرتدي حلة كحلية اللون ذات ياقة لامعة. شابان في مقتبل العمر، يرافقهما مصوران محترفان كما يتضح من العدسات التي يحملانها، ومن الزوايا التي أخذا في اختيارها لتصوير العريسين.
كانت البداية قرب البحيرة، حيث كان بعض روادها يمارسون هواية ركوب القوارب الصغيرة، التي لا تتسع لأكثر من شخصين، وحول البحيرة كان ينتشر طالبو راحة واستجمام من مختلف الجنسيات والفئات العمرية.
لا نستطيع أن نجزم ما إذا كان قد استرعى انتباه جميع من كانوا حول البحيرة وصول الفتاة والفتى اللذين كانا يحتفلان بزواجهما، وتنقلهما من مكان إلى آخر لالتقاط الصور التذكارية، لكننا نتوقع أن كل من رآهما تمنى لهما السعادة، فليس ثمة ما يدعو إلى غير هذا الاحتمال وسط تجليات هذه الطبيعة الساحرة والطقس الجميل، وما يبثانه في الإنسان من طاقة إيجابية تطرد كل الطاقات السلبية، وأولها طاقة الحسد الذي يفلق الحجر كما يقال في الأمثال.
وعلى هذا النحو كانت الدقائق تمضي، وليس ثمة ما يوحي بأن هناك ما سيكدر صفو هذه اللحظات الجميلة، لا على العروسين اللذين يخطوان نحو حياتهما المقبلة بفرح وأمل، ولا على رواد البحيرة الذين يمضون أوقاتاً سعيدة بعيداً عن صخب المدن وضجيجها.
مع تجاوز عقارب الساعة للرابعة عصراً بدأت غيوم داكنة اللون تتجمع في السماء، وبدأ هدير رعد قادم من بعيد يخترق هدوء المكان، وفي حديقة مخصصة للشواء كان المصوران يقومان بالتقاط بعض الصور للعروسين، بينما كان بعض رواد البحيرة يمارسون هواية الشواء.
وفجأة انفتحت مزاريب السماء وانهمر مطر غزير لم يتوقعه أحد، وخلال دقائق معدودة كانت المياه قد غطت أرض الحديقة، وكان الجميع يهرعون إلى المظلات الخشبية المنتشرة في أرجاء الحديقة للاحتماء بها، لكن قدرة تلك المظلات الصغيرة المكشوفة من الجهات الأربع على حماية الملتجئين إليها كانت محدودة جداً، إذ وجد الجميع أنفسهم مبللين بماء المطر، وكان أكثر المتضررين العروس التي غمر البلل فستانها الأبيض، ولم يجد العريس وسيلة لحماية فستان عروسه سوى رفعها فوق طاولة خشبية أسفل المظلة، ثم خلع معطفه وتغطية كتفيها، حيث كان سقف المظلة قد تحول هو الآخر إلى سماء أخرى ماطرة.
أكثر من ثلاثة أرباع الساعة انقضت، ووتيرة هطول المطر لا تشي بأن ثمة احتمالاً لتوقفه كي تتاح الفرصة لأولئك الذين بدوا كأنهم خارجون من مياه البحيرة، حتى ينتقلوا من الحديقة إلى المطعم الذي يقع على نحو مئتي متر منها.
ولأن أحداً لم يكن قادراً على توقع متى سيتوقف المطر، أو يقلل من وتيرة هطوله على الأقل، فقد انطلق الجميع تحت زخات المطر المنهمر نحو المطعم الذي بدا بعيداً ساعتها رغم قربه، وأولهم العروس والعريس اللذان كان بقاؤهما في الحديقة أكثر من ذلك سيفسد عليهما بهجة المناسبة، وربما عطل إتمام مراسم الزواج.
في المطعم، الذي جمع تحت سقفه المبللين بالمطر، تصفحتُ وجوه المتحلقين حول الطاولات، حيث توزعت أكواب الشاي والقهوة الساخنة، فوجدت بينها عرائس من مختلف الأعمار، صحيح أنهن لم يكن يرتدين فساتين بيضاء مثل تلك العروس، لكن الفرح كان بادياً على وجوههن، ورأيت في العيون ابتسامات، وعلى الشفاه المطبقات كلمات، فأيقنت أن المطر خير في ثقافات وموروثات كل الشعوب والأمم.
جريدة البيان