يحتل محمد برادة (مواليد 1938)، منذ سبعينات القرن الماضي، موقعاً أساسياً في حركة تحديث الثقافة العربية، سواءٌ على صعيد الكتابة الإبداعية أم في الفكر والثقافة والنقد. فاسمه كان، ومازال، يتردد بين كوكبة من الأسماء المغربية والمشرقية التي سعت إلى الانتقال بالثقافة والفكر والنقد، في العالم العربي، من التقليد والأفكار العتيقة الجاهزة التي أوهنها التكرار إلى فكر مختلف ينظر بعينين جديدتين إلى عصف التحولات والأفكار والرؤى الذي ضرب بعصاه السحرية العالم من حولنا. كما سعى برادة في الوقت نفسه إلى القيام بدور المثقف التنويري، اليساري، العروبي، المنخرط في الحياة السياسية والاجتماعية والفكرية للعالم العربي، سواءٌ على صعيد الكتابة (التي هي فعلٌ فرديٌّ شديد الخصوصية) أم العمل الجماعي والنقابي الذي يسعى إلى ترسيخ قيم التنوير والحداثة والديموقراطية في عالمٍ عربي ظلَّ يرزح، حتى هذه اللحظة، تحت وطأة استبداد السلطة والظلاميَّة الدينيّة اللذين أقاما بينهما تحالفاً غير مقدس لخنق حركات التحديث الجذرية، والنضال الديموقراطي الاجتماعي، والتنوير الفكري والثقافي. ولا شكَّ في أن الروائي والناقد والمترجم المغربي الكبير، والمناضل النقابي في اتحاد كتاب المغرب على مدار سنوات طويلة، كان يدرك قوة هذا الحلف الذي يجمع السلطة إلى معارضتها الدينية لإفشال أي تحول سياسي – اجتماعي – ثقافي في المجتمعات العربية. وهو انطلاقاً من هذا الوعي العميق بصعوبة مهمة المثقف التنويري، انخرط في العمل العام وناضل من أجل ترسيخ مكانة اتحاد كتاب المغرب في الفضاء العام، وجعل هذا الاتحاد واحداً من اتحادات كتاب عربية قليلة تتمتع باستقلاليتها عن السلطة وحملها رسالة ثقافية اجتماعية ديموقراطية. لربما يكون هذا السبب واحداً من الأسباب الفعلية التي جعلت برادة يحجم لسنوات طويلة عن نشر الكتب النقدية، مكتفياً بنشر بضعة أعمال إبداعية أو ترجمات لكتب أساسية في النقد والنظرية رأى من الضروري، ضمن حركة تحديث الكتابة النقدية العربية، أن يطلع عليها النقاد والباحثون والأكاديميون والقراء العرب.
هكذا أمضى برادة شطراً مهماً من حياته في العمل العام والتدريس الجامعي الذي رأى فيه منصةً متقدمة يتحاور فيها مع طلابه حول الأفكار والنصوص التي يعتقد بأنها قادرة على نقل العالم العربي من وهدة التخلف إلى حلم التنوير والتقدم، ومن سلطة الاستبداد إلى زمن الديموقراطية المأمول. ومن دون فهم هذه الخلفية، يصعب النظر إلى تجربة برادة الإبداعية أو النقدية، فهو، مقارنةً بجيله من الروائيين أو النقاد العرب، أنجز القليل من الأعمال، فكتب مجموعة قصصية، على ما أذكر، وعدداً قليلاً من الروايات، وعدداً أقلَّ من الكتب النقدية، إضافةً إلى بضع ترجمات. لكن المتابع مسيرته الثقافية وحضوره العربي البارز في المؤتمرات وفي المجلات والصحافة الثقافية العربية سيجد أنه واحدٌ من قلة من المثقفين العرب الذين تميزوا بهذا الحضور والحماسة والألمعيَّة الثقافية والقدرة على النقاش من أجل ترسيخ قيم سياسية واجتماعية نبيلة وفكر متقدم في الحياة العربية على مدار عقود وعقود من الزمن. فلم تفتر همته، وظلَّ برادة، الذي تعرفت عليه منذ ثمانينات القرن الماضي، هو هو لم تتبدَّل حماسته أو رغبته في تعلُّم الجديد في الفكر والنقد والثقافة في العالم، وفي تعريف الآخرين ممن لم تسمح لهم ظروفهم بالاطلاع على ذلك الجديد في لغاته الأصلية. إنه، بهذا المعنى، مثالٌ للمثقف العام، أو المثقف العمومي، الذي تحدث عنه إدوارد سعيد، الذي يضطلع بدور بارز في الحياة العامة، ويحمل رسالة تنويرية، ويقول الحقيقة للسلطة من دون خوف أو تحسُّب للعواقب.
الكاتب- الأنموذج
يقدم محمد برادة أنموذجاً للكاتب العربي الذي يطرح الأسئلة على مجتمعه من خلال شكلين من أشكال الكتابة: الرواية والنقد. فهو من خلال الرواية يُشَخِّصُ حالة الفرد والمجتمع مستعملاً تجربته الشخصية وأحداث طفولته وصباه، كما يبني عالماً روائياً من شخصيات وأحداث متخيلة ليطرح على نفسه وعلى قرائه أسئلة الخروج من الأزمة الخانقة التي عاشها جيله بعد استقلال المغرب ومواجهته أسئلة ما بعد الاستقلال في بيئة اجتماعية وسياسية وثقافية محتدمة بالصراع والحوار والجدل الدائر حول شكل العلاقة بين السلطة والمواطن، والسلطة والأحزاب، والسلطة والمجتمع المدني. أما في النقد فإنه يعيد صياغة تلك الأسئلة الخاصة بالمجتمع المغربي بصورة تجعلها صالحة لتطرح على المجتمعات العربية الأخرى، وذلك من خلال محاولة تشخيص خطاب الأزمة في النصوص الروائية والقصصية العربية. وهو بهذا المعنى يجسد في الثقافة العربية الراهنة مثال الكاتب المنشغل، على مستويات عديدة، بقضايا المجتمع والثقافة العربيين، سواءٌ على الصعيد المغربي الداخلي أم على الصعيد العربي القومي.
استناداً إلى هذه الرؤية التي يتبناها والرسالة التي يرغب في تأديتها، اهتم برادة بالنص الروائي العربي الجديد، فكتب عن كوكبة واسعة من الروائيين العرب، ممن ينتمون إلى جيلي الستينات والسبعينات، والأجيال التالية على هذين الجيلين المؤثرين في الكتابة الروائية العربية، منحازاً دائماً إلى الجديد والمختلف والجريء في هذه الكتابة. ثمَّة قلة قليلة من النقاد العرب تشبه برادة في متابعته للأجيال المتتالية من الروائيين العرب، الذين ينتمون إلى أقطار وجهات جغرافية عربية مختلفة، وكذلك إلى أمزجة ورؤى وخبرات سردية متباينة. ولهذا فإن كتبه النقدية التي جمع فيها بعض دراساته ومقالاته عن الرواية العربية تحتشد بالأسماء، والروايات التي أنجزها روائيون وروائيات لهم حظ من الشهرة، أو لا حظَّ لهم منها. فناقد طليعي في حجم برادة لم يكن ليهتمَّ بشهرة الكاتب من عدمها، لأن تركيزه انصبَّ على التبشير بالجديد والمتميز وما يحمل رسالة ثقافية – اجتماعية متقدمة، وما يحدث انتهاكاً على صعيد الشكل وإثراءً وإضافة إلى النص الروائي العربي. في كتابه «أسئلة الرواية، أسئلة النقد» (1996)، على سبيل المثال، يناقش العلاقة بين تطور الرواية العربية وتطور الفكر النقدي العربي المعاصر. ويمكن عدُّ هذا الكتاب خلاصة تفكير برادة حول الرواية العربية التي خصَّها بمعظم دراساته وقراءاته النقدية، حيث يركز على تحليل مفهوم التعدد اللغوي في الرواية العربية وآفاق تطور هذه الرواية، كما يكتب عن روايات «الخبز الحافي» لمحمد شكري، و «وليمة لأعشاب البحر» لحيدر حيدر، و «ترابها زعفران» لإدوار الخراط، و «رحلة غاندي الصغير» لإلياس خوري، و «باب الساحة» لسحر خليفة، فيما يكتب في كتابه التالي «الذات في السرد الروائي» (2009) عن أربعين رواية جديدة، معطياً القارئ تصوراً نقدياً بانورامياً عن أفق تطور الرواية العربية خلال ما يزيد على ثلاثين عاماً.
تأصيل النقد الروائي
لكن برادة، إضافةً إلى اهتمامه بنقد الرواية العربية والتأصيل النظري لها، يعد واحداً من بين قلة من النقاد العرب الذين يُطلعون القارئ على ما يستجد في حقل الدراسات النقدية في العالم، سواءٌ عبر الترجمة أم من خلال تلخيص الأفكار النقدية الجديدة وعرضها. وقد نشر الكثير من الترجمات في المجلات المتخصصة، ونشر على وجه الخصوص كتاب الناقد البنيوي الفرنسي الشهير رولان بارت «الكتابة في درجة الصفر» الذي أثار الكثير من النقاش في حقل نظرية الأدب وغيَّر في المفاهيم التي كانت سائدة قبل كتابة هذا الكتاب. كما ترجم كتاب الفيلسوف والناقد الروسي الشهير ميخائيل باختين «الخطاب الروائي»، وهو من بين الكتب التي أحدثت ثورة في نظرية الرواية ومفهومها وقامت بوصل الرواية الحديثة بأسلافها من الكتابات السردية في العالم القديم.
بالمعنى السابق يقوم برادة بفتح آفاق النقد العربي المعاصر على التيارات الجديدة في الفكر النقدي المعاصر في العالم. وهو يرى في كتاب «محمد برادة في رحاب الكلمات» (حوار مطول أجراه معه عثمان ميلود وبوشعيب شداق، منشورات الرابطة، المغرب) أن الأسباب التي دفعته للتعريف بالأفكار النقدية الغربية المعاصرة تتمثل في غياب جماعاتٍ تعمل على الترجمة في المؤسسات الأكاديمية العربية وفي الحياة الثقافية كذلك. وبسبب هذا الغياب فقد أخذ هو على عاتقه ضرورة تعريف القراء العرب، وكذلك الأدباء والنقاد الذين لا يقرؤون باللغات الأجنبية، على ما يَجِدُّ من أفكار وتصورات نظرية حول الأدب. وهو بهذا المعنى يمثل حلقة وصل بين النظرية الأدبية الغربية والفكر النقدي العربي الراهن الذي يسعى إلى الإلمام بالكشوفات النظرية في النقد العالمي المعاصر، سعياً إلى فحص هذه الكشوفات واستكشاف قدرتها على قراءة النصوص العربية، خصوصاً الروائية منها. وقد قام برادة نفسه بتطبيق معرفته بالنظرية، وخصوصاً تلك التي تسعى إلى قراءة رؤية العالم في النص الأدبي، والاهتمام بالحمولة السياسية والاجتماعية والثقافية للنصوص، على ما قرأه من روايات عربية. إنه مثال المتابع الحصيف، والانتقائي في الوقت نفسه، للمنجز النقدي في العالم، خصوصاً الفرانكوفوني منه، ليقدمه ويشرحه ويوضحه للقارئ العربي، بلغة مبينة وأسلوب رشيق، وروح سجالية لا تنظر إلى تلك النصوص والرؤى النقدية بعين التقديس فلا يجوز الخروج عنها أو نقدها. بل إنه على العكس من ذلك يُعمل فيها مبضعه النقدي، ويدعو في أحيان كثيرة إلى إشاحة البصر عنها. وهذه بالطبع سمة المثقف السجاليّ النقدي، والناقد الأدبي الذي لا يرضى بأخذ الأشياء على عواهنها والترداد الببغاوي لكل ما كتبه منظرون وفلاسفة غربيون. وهو ما يميز برادة عن العديد من النقاد والأكاديميين العرب الذين نجدهم أسرى النظرية التي يتحزبون لها، أو أنهم يتعبدون في محرابها، أو ينقلون عن أصحابها نقلاً ببغاوياً لا يضيف إلى معرفتنا بالنظرية وتطبيقاتها، وقدرتها على كشف ما تنطوي عليه النصوص الأدبية، وما تكتنزه من حمولات أيديولوجية أو تطويرات شكلية.
للأسباب السابقة وجدتني منذ ما يزيد على ربع قرن أقرب إلى رؤية محمد برادة للنقد والنظرية الغربيين، فلا قداسة ولا تكريس، ولا ميلَ إلى التعبد الصنمي لذلك النقد أو تلك النظرية. ولا شك في أن احتكاكي ببرادة، ونقاد عرب قلة يعدون على أصابع اليد الواحدة، يمتلكون فكراً نقدياً حراً لا انبهار فيه ولا استلاب تجاه المعرفة الآتية من الضفة الغربية للعالم، هو ما جعلني أكتب ما كتبت أو أترجم ما ترجمت. لقد كانت الكتب التي ترجمها برادة، أو المقالات والدراسات التي قرأتها له، في ثمانينات القرن الماضي، من بين ما استرشدت به لأشق طريقي النقدي في التعامل مع النصوص، والجدل مع النظريات والرؤى النقدية التي سعيت إلى التعرف عليها سواءٌ في لغتها الأصلية، أم مترجمةً إلى الإنجليزية أو العربية. ولقد كان لبرادة الفضل في تعريفي بفكر باختين حول الخطاب الروائي، وكذلك المراحل الأولى من نقد رولان بارت في كتابه «درجة الصفر للكتابة». فشكراً لمحمد برادة الذي سعى، على مدار عمره المديد إن شاء الله، إلى فتح عيوننا على الجديد في الرواية العربية، وفي النظرية والنقد، وكان على الدوام مثال المثقف العمومي الذي يضطلع بدوره كمثقف نبيل يتخذ مواقف متقدمة من قضايا السياسة والمجتمع، وينادي بالحرية والديموقراطية والعدالة الاجتماعية، في كتاباته، كما في مواقفه وسلوكه اليومي. إنه مثال للإنسان والمثقف المحترم.
جريدة الحياة