هناك خصام تاريخي بين السياسة والثّقافة في المجتمعات العربية. وبشكل أدق، توجد علاقة ريبة بين رجال السياسة والمثقفين والمبدعين بشكل عام في الفضاء العربي الاجتماعي الثقافي. بل إن هذه الخصومة التاريخية، التي وإن عرفت في بعض المحطات مصالحات مهمة، فإنها السبب الرئيسي فيما نحن فيه الآن من مشكلات في مستوى البنية الفكرية الثقافية العربية.
لكن رغم أن الخصومة بين السياسة والثّقافة تكاد تكون القاعدة، فإننا لا نستطيع أن ننكر أنه في كل المجتمعات نستطيع أن نعثر على رجالات سياسة مميزين شكلوا الاستثناء، ونجحوا في كسر القاعدة المشار إليها، وفي دعم الثّقافة والرهان على الفاعلين فيها.
طبعاً، السياسيون الذين نجحوا في كسر القاعدة كانوا مثقفين ويدركون جيداً قيمة الفكر والإبداع في النهوض بالشعوب، ويدركون أكثر، وهذا سر تميزهم، أن الرهان على شعب يهتم بالثقافة وتفعل فعلها فيه هو الرهان الحقيقي والعميق، الذي يعطينا بالفعل شعباً قادراً على التقدم والنجاح والبناء والتفوق.
ما قادنا إلى هذه الديباجة هي مدينة أصيلة المغربية التي استطاع ابنها البار السيد محمد بن عيسى، وزير الخارجية الأسبق، أن يجعل منها منارة للثقافة والإبداع، فإذا بها مثال على الجمع بين السياحة والثقافة والفكر والبحر والطقس الجميل.
لقد بعث رجل السياسة محمد بن عيسى موسم أصيلة الثقافي منذ أربعين عاماً، وهو موسم يعج بالندوات واللقاءات وجوائز الشعر والرواية ومعارض الفنون التشكيلية. بمعنى آخر، فإن الجانب الثقافي في الرجل لم يقهره البعد السياسي ومشاغل السياسة. بل إنه ومنذ أربعة عقود بعث منتدى أصيلة الذي شهد مشاركات أكبر المبدعين والمفكرين، حيث استثمر الرجل علاقاته في خدمة هذا المنتدى.
ومن يتصفح برنامج موسم أصيلة الثقافي الدولي في عامه الأربعين الذي يستضيف أفريقيا ضيفة شرف، يدرك أن الوعي السياسي قادر أن يفيد الثقافة كثيراً؛ وهو ما يظهر في الموضوعات المطروحة التي تقارب الإشكاليات الراهنة الدقيقة. كما أن ما يميز موسم أصيلة هو أنه لم يسقط في إغراءات اللحظة الثقافية الفنية التي يمر بها العالم العربي، بل ظل محافظاً على رؤيته ورهاناته وتطلعاته، ووفياً لخدمة الفكر الجاد والإبداع الحقيقي الذي يبني ويربي على قيم الجمال والانفتاح، ولم يسقط في شعار «الجمهور عايز كده».
وفي جلسة جمعت بيننا، أعضاء لجنة تحكيم جائزة بلند الحيدري للشعراء العرب الشباب، والأمين العام لموسم أصيلة الأستاذ محمد بن عيسى، رأيت من جهة جدية الرؤية الثقافية وأيضاً المرونة، حيث لم يتوانَ عن قبول مطلبنا في ضرورة عودة الأمسيات الشعرية لموسم أصيلة، وأيضاً في العزم على دعم الشعراء الشباب والترفيع في سن الترشح للجائزة.
فلكل شيء قصة في أصيلة. ولقد نجح موسم أصيلة الثقافي الدولي في أن يكون قصتها الأعذب والأجمل والأقوى؛ إذ الأنهُج حاملة لأسماء العلماء والمبدعين، واللوحات التشكيلية تملأ جدران المدينة وحتى على شاطئ البحر أقيمت معارض للكتب.
أما حدائق أصيلة، فقد سمّاها موسم أصيلة بأسماء كبار المبدعين، ولك أن تختار أن تذهب إلى حديقة الطيب صالح أو محمد عابد الجابري أو بلند الحيدري أو محمود درويش أو شيكايا أوطامسي.
فكرتنا الأساسية من خلال الحديث عن أصيلة وموسمها الثقافي والتوقف عند أمينه العام هو الإشارة إلى فكرة نعتقد أنها مهمة، وهي أن أكثر رجالات السياسة الذين ظلوا في الذاكرة هم الذين كانوا إما أصحاب مشروعات ثقافية وطنية، أو أنهم كانوا رجال سياسة يؤمنون بالمثقف والمبدع ومدّوا جسور التواصل وفتح الآفاق لهم. نحن اليوم نحتاج إلى أن يصبح الرهان على الفكر والثقافة هو القاعدة التي تجمع ممارسي السياسة في بلداننا. كما نحتاج إلى من ينتبه إلى ضرورة أن تكون السياحة ذات بعد ثقافي بشكل يجعل من أنشطتنا الثقافية محركاً للثقافة وللسياحة في الوقت نفسه.
والأهم مما أشرنا إليه هو أن تصبح الثقافة والسياحة وجهين لعملة واحدة، وأن تكون هذه الفكرة مسلّمة في سياساتنا، وليست فقط رؤى يتبناها أشخاص ومهما كانت أهميتهم. بمعنى آخر، السؤال كيف تصبح مدننا العربية ذائعة الصيت بأنشطتها الثقافية وتفرد أفكارها الحاملة لروح المدينة وبصمتها فيأتيها الناس من كل مدن العالم الأخرى. هنا يظهر الذكاء: فالفكرة ثروة وعملة صعبة وإشعاع وتربية على الجمال، والانفتاح والآفاق الإنسانية الرحبة.
نحتاج إلى إحياء عشقنا لمدننا، والرهان على سحرها بالبحر والشمس والثقافة والشوارع النظيفة، وإذا تعبنا من التجوال في المدينة ندخل الحدائق الحاملة باعتزاز لأسماء نجوم الشعر والفكر والسرد.
إن العالم مدن نجح أهلها في أن يجعلوا منها وجهة. وهو نجاح قام على فكرة جيدة، وطول نَفَس، وحبّ لا ينتهي، وإصرار على تقديم الصورة الأكثر صدقاً وواقعية عن العرب ومدنهم.
جريدة الشرق الاوسط