للبشرية أربع حضارات أصيلة؛ اثنتان منها من نصيب الأرض العربية، والثالثة والرابعة في الهند والصين، كان يمكن أن يطوي التاريخ سجل الحضارات البشرية القديمة، ويُغيبها في بطون الزمن، لولا التطور الذي أحدثته في المعتقدات والأفكار الفلسفية التي بحثت في سر الوجود، ومنهجت المعرفة، كان القدر في الترادف العظيم بين الفيلسوف الصيني كونفوشيوس والفيلسوف اليوناني أفلاطون، كلاهما نظر إلى الإنسان من الداخل، يُخيل لي أحياناً أن أفلاطون كان في الغرب يسأل وكونفوشيوس من الشرق يجيبه، فحين تساءل أفلاطون «أثمّة عدلٌ مطلق أم ليس له وجود؟ وجمال مطلق؟ وخير مطلق؟»، أجاب كونفوشيوس «ما يبحث عنه الرّجل الرفيع موجود في نفسه، وما يبحث عنه الرّجل الوضيع موجود عند الآخرين».
الصين مِرآة العرب، تنعكس الصورة فيها بتناظر دقيق، عنقاء الصين القديمة هي ذاتها العنقاء عند العرب، يحكي التاريخ التزامن بين نشوء الحضارة العربية الإسلامية وفورتها الأولى، وبين اختراع الصينيين لورق الكتابة ووضعهم المعاجم وتدوينهم المصنفات، وتطور الزراعة والحرف اليدوية والتجارة، لم تخلُ التجربة الصينية من الفجائع، حينما أشتد الصراع بين الأقاليم وتعطلت السلطة المركزية، وانقسمت الإمبراطورية الصينية إلى ممالك متناحرة، وفي الوقت ذاته انقسم العرب إلى ممالك متصارعة بعد سقوط الدولة الأموية.
تغير الوضع في الصين التي شهدت سياسة انفتاح على الآخر، تطورت معها المواصلات البرية والبحرية لترتبط بالعرب ثقافياً واقتصادياً، لم تخلُ العلاقة العربية – الصينية من التوتر خلال العهد العباسي، سببه الصراع في آسيا الوسطى، انتهى هذا الصراع مع معركة نهر طلاس، التي تعد أول وآخر صدام عسكري بين العرب والصينيين، ليتغير بعدها المزاج العام بمبادرة من أسرة «تانغ» الحاكمة، التي اختارت منهجاً متسامحاً، خصوصاً في الشأن الديني، جاعلةً الأديان الصينية والأديان الدخيلة سيان في الواجبات والحقوق، وانعكاساً لذلك وصلت البوذية إلى قمة ازدهارها، ووجد كل من الإسلام والمسيحية النسطورية وضعهما المميز في الصين.
ابتلي كل من الصينيين والعرب بكارثة الغزو المغولي، فسقطت بغداد على يد هولاكو خان، وسقطت الصين كذلك على يد قبلاي خان، كلتا الأمتين طردتا المغول بعد حين، تلت ذلك هجرة عربية إلى الصين لتزدهر مجدداً ثقافياً وفنياً، ثم حدث الانقطاع الكبير بين الحضارتين، في أواخر عهد أسرة «چين» التي طبقت سياسة إغلاق الأبواب خوفاً من الآخر الغريب، فتوقفت التجارة الخارجية، وتعطل التبادل الاقتصادي والثقافي بين الصين والعالم، وعاش العرب كذلك في عزلة ملعونة فرضتها عليهم الدولة العثمانية، لتنقطع علاقة العرب بالصين أمداً طويلاً، ثم ذاق الصينيون في حرب الأفيون مرارة الاستعمارين البريطاني والفرنسي، كما ذاقها العرب، إلى أن خطت الصين نحو الاستقلال والسيادة والتنمية بقيام جمهورية الصين الشعبية عام 1949.
يثمّن العرب الحكمة الصينية، وقت ما عرف بـ«الربيع العربي»، برفضها التدخل الأجنبي في الشؤون الداخلية، واحترامها للوحدة والسيادة الوطنية، وتبرهن العلاقات الإماراتية بشكل خاص على امتلاك الصين إرثاً ثقافياً تليداً متطوراً لا ينظر إلى اختلاف اللغة واللون والدين باعتبارها عوائق، وتنظر إلى الثقافة العربية نظرة الشريك الذي تكتمل معه وبه الصورة في مرآة الحضارة الإنسانية.
جريدة الاامارات اليوم