لا تُحصى الكتب التي صدرت هذا العام في فرنسا عن انتفاضة أيار (مايو) 1968 في الذكرى الخمسين لاندلاعها، ولا تُحصى أيضاً المقالات التي كُتبت عنها في الصحف والمجلات، ناهيك عن الملفات والإحصاءات… هل بقي لدى الفرنسيين، مفكرين ومثقفين، ما لم يكتبوه أو يقولوه عن تلك اللحظة التاريخية الرهيبة التي لم يشهد التاريخ السياسي الحديث ما يضاهيها في طبيعتها الفريدة وخصائصها وشعاراتها؟ أقول انتفاضة أيار 68 وقد أخطئ، فبعضهم يسميها ثورة وبعضهم حركة ثورية أي أقل من ثورة، وبعضهم حركة عصيان طلابي… ولكن أياً تكن التسمية فهذه الانتفاضة الثورية لا تزال حاضرة في وجدان الفرنسيين والحركات الثورية العالمية في كونها حركة مفتوحة، فكرياً وسياسياً وثقافياً، بعيداً من أي قولبة أيديولوجية أو احتواء فلسفي أو تدجين. وربما هنا تكمن قدرة هذه الانتفاضة على مواجهة العصر الذي كاد ينتصر عليها، لا سيما مع انبثاق العولمة «الرأسمالية» الطابع، ورواج ثقافة الثورة الإعلامية والمعلوماتية التي تنتمي إلى ما سمته الانتفاضة مفهوم «المشهد» وصعود قيم السوق والاستهلاك… وقد طرح مفكرون أسئلة كثيرة في هذا القبيل معيدين النظر في معطيات هذه الانتفاضة وفي الشعارات الرهيبة و «الرنانة» التي طرحتها. ومنهم من نعاها وأعلن دخولها «متحف» التاريخ السياسي بعدما فشلت في تحقيق أهدافها وبعد سقوطها في حال من الفوضى والتناقض وفي مقدم هؤلاء مفكرو اليمين الفرنسي.
ليس من اليسير فهم هذه الانتفاضة أو الحركة الثورية، ومن لم يكن قريباً منها أو لم يرافقها عن كثب، يصعب عليه أن يقف على أسرارها. هذا ما يقوله بعض الكتّاب اليوم. ومهما قُرئ عنها تظل حالاً شبه ملتبسة، فهي كانت وليدة لحظتها التاريخية، ولم تخل من العفوية والصدق والحماسة الثورية النقية. كانت انتفاضة بلا نظريات مسبقة وجامدة، وفعلاً حياً ينطلق من دون مقدمات جاهزة. ولعل تبنيها الحرية المطلقة يدل على براءتها وعلى عدم وضع خطط لها ورسم «حسابات»، هي حسابات الربح والخسارة. حتى المتاريس التي بناها الطلاب والعمال الذين التحقوا بالانتفاضة، في وجه زحف قوى الأمن بهراواتهم وقنابلهم الغاز، لم تكن متاريس مقاتلين محترفين، مقدار ما بدت مرتجلة وصنع شباب هواة. لكنّ هؤلاء عرفوا كيف يرمون الحجارة ويحرقون ويكسرون. وقد جاهر أحد شعارات الانتفاضة بهذا الفعل: «أخيراً، في إمكاننا أن نتمتّع، أن نكسّر، أن نخرّب، ثم نتكلم».
كم بدا جميلاً وصف طبيعة هذه الانتفاضة بـ «قوس قزح»، فهي جمعت «ألواناً» وأطيافاً فكرية وسياسية عدة ولم تقصر دعوتها على تيار ثوري من دون آخر، ولا على فكر طليعي من دون آخر. هكذا كان فرسانها متعددي الهويات، تروتسكيين وماويين وغيفاريين وفوضويين (أنارشيست) وسواهم… أما مراجعها الفكرية والفلسفية والثقافية فكانت أشبه بمروحة واسعة: ماركس، تروتسكي، ماو، سارتر، ادغار موران، هنري لوفيفر، غي دو بور، اريك فروم، ميشال فوكو، مدرسة فرانكفورت، الدادائية، السوريالية…
دعت انتفاضة أيار 68 جهاراً وبصراحة إلى رفض القمع في أشكاله كافة، الديني والبطريركي أو العائلي والتربوي والجامعي والجنسي، وإلى رفض الاحتواء والتضحية والثقافة المشهدية والرقابة والانتماء الحزبي والانضواء النقابي والأيديولوجيا الرأسمالية… ومجدت الحياة والإقبال عليها، الحلم، الحرية، الجنون، الجسد، الحب، الفن، حرية المرأة. ومن يرجع إلى الشعارات التي أطلقتها، يلمس مدى غلوّها أو مغالاتها في الرفض والاحتجاج والتحرر. كأنها شعارات وضعت لتبقى شعارات فلا يتحقق منها إلا نزر قليل. ومن هذه الشعارات: «كونوا واقعيين: اطلبوا المستحيل»، «لنغلق جهاز التلفزيون ونفتح أعيننا»، «يا عمال العالم، سلّوا أنفسكم»، «لم تنجب الطبيعة خداماً. لا أريد إعطاء الأوامر ولا تلقيها»، «ينام داخل كل منا شرطي يجب قتله»، «الاقتراع فخ للمغفلين»، «وحدها الحقيقة ثورية».
جريدة الحياة