«استراحة المحارب في مجال الكتابة، ليست دائماً رفاهاً، بل في أحيان كثيرة، نادرة وفارقة، تكون ضرورة». قرأت الرسالة التي وصلتني عبر «واتسآب» من الصديق محمد حسن الحربي. توقفت عند تعبير «استراحة المحارب». يستخدمه الكُتّاب عادة عندما يقررون التوقّف عن الكتابة فترة مؤقتة، أو التوقّف عنها نهائياً. رددت برسالة متمنياً أن لا تطول استراحة صديقي الكاتب الجميل، وأن يعود إلى الساحة قريباً. ختمت «نحن في الانتظار».
«استراحة المحارب» هذه ذكرتني بمقال كتبته قبل أكثر من عشرين عاماً، عام 2000 على وجه التحديد، في «استراحة البيان». كانت «استراحة البيان» وقتها تحتل قلب الصفحة الأخيرة من الجريدة، ويكتب فيها عدد من الكتاب الكبار العرب أمثال الدكتور جابر عصفور، والدكتور محمد الرميحي، والأستاذ محمد الخولي، والأستاذ محفوظ عبد الرحمن، والأستاذ جمال الغيطاني، بالإضافة إلى عدد من الكتّاب الإماراتيين. وكان لي شرف الكتابة في الاستراحة.
كان عنوان المقال «اعترافات عائد للكتابة»، بعد قرار بالتوقّف عن الكتابة فترة لم تتجاوز الأسابيع الستة، كنت قد اتخذته لالتقاط الأنفاس، ومراجعة النفس، كما زعمت، تعهدت بعدها بعدم معاودة التجربة في المدى القريب على الأقل، لصعوبة العودة إلى الكتابة بعد الانقطاع عنها، مستشهداً بإحدى استراحات الكاتب الجميل الصديق محفوظ عبدالرحمن، عليه رحمة الله، معترفاً بأن روح إحدى استراحاته ترفرف على أجواء استراحتي، وتجعلني أشاطره معايشة اللحظة التي تتجمع فيها عشرات الأفكار قبل البدء في الكتابة، ثم تتبدد فكرة في أثر أخرى بمجرد الإمساك بالقلم والشروع في الكتابة، معترفاً بأن قليلاً مما يُعرَف يُكتَب، وأن قليلاً مما يُكتَب يُقرأ، وأن قليلاً مما يُقرأ يفيد، وأن قليلاً مما يفيد يؤثّر، وأن قليلاً مما يؤثّر يغيّر، وأن قليلاً مما يغيّر يُنشَر، وأن قليلاً مما يُنشَر يعلق بالذاكرة، فرغم ادّعائنا أننا ذاكرة الأجيال، إلاّ أن مهنتنا كثيراً ما برهنت أنها مهنة بلا ذاكرة. في روايته «أوراق محارب الضوء» يقدّم الروائي البرازيلي باولو كويلو أوصافاً عديدة لمحارب الضوء. أحداث القصة نفسها قصيرة لا تستغرق سوى 5 صفحات فقط من الرواية التي تقع في 160 صفحة. الجزء الأكبر من الرواية تستغرقه أوصاف محارب الضوء التي يدوّنها بطلها عن تلك المرأة التي رآها مرة أخرى على الشاطئ الذي عاد إليه بعد سنوات كثيرة من رؤيته الأولى لها، كبر خلالها وأصبح رجلاّ، في حين لاحظ أن ملامح المرأة بقيت على حالها رغم مرور الأعوام، وأن الحجاب الذي يغطّي شعرها لم تشحب ألوانه مع مرور الزمن. ناولته المرأة دفتر مذكرات أزرق اللون يحتوي على صفحات فارغة. «اكتب: يقدّر محارب الضوء عيون الأطفال، لأنها قادرة على التطلّع إلى عالم يخلو من المرارة. وعندما يريد أن يعرف ما إذا كان الشخص الواقف إلى جانبه يستأهل ثقته، فسيحاول أن يراه كما يفعل الأطفال».
«ومن يكون محارب الضوء هذا؟».
ابتسمت وأجابت: «أنت تعرفه جيداً. إنه ذلك الشخص الذي يقدر على فهم معجزة الحياة، وفهم كيفية النضال من أجل أمرٍ ما يؤمن به حتى النهاية، ويقدر على سماع الأجراس التي تقرعها الأمواج تحت قاع البحر». لم يعتبر نفسه أبداً محارب الضوء. بدا أن المرأة تمكّنت من قراءة أفكاره، فقالت له: «يقدر كل شخص على هذه الأمور، وبالرغم من أن أحداً لا يعتبر نفسه محارب الضوء، لكننا جميعاً محاربو ضوء». حدّق الفتى في صفحات دفتر المذكرات الخالية. ابتسمت المرأة مجدداً. قالت له: «اكتب عن ذلك المحارب». كان المكان غارقاً بالظلام عندما أنهت حديثها. جلس الاثنان يراقبان طلوع القمر. قال لها: «لاحظت أن عدداً من الأمور التي أخبرتني إياها تناقض بعضها بعضاً». نهضت. قالت له: «وداعاً. عرفت الآن أن الأجراس الغارقة في قاع البحر ليست أسطورة فقط، وأنه لا يمكنك سماعها إلا عندما تدرك أن الريح، وطيور النورس، وأصوات أغصان النخيل، كانت كلها جزءًا من رنين الأجراس. وبهذه الطريقة ذاتها يعرف محارب الضوء أن كل شيء من حوله، انتصاراته وهزائمه وحماسته ويأسه، تؤلف كلها جزءّاً من حربه النبيلة». تخيل نفسك يا صديقي محارب ضوء. حاول أن تستمع إلى رنين الأجراس الغارقة في محيطك. عندها ستعرف ما إذا كانت «استراحة المحارب» التي قررت أخذها رفاهاً أم ضرورة. نحن جميعاً محاربو ضوء، ومحاربو الضوء لا استراحة لهم لأنهم يكتبون حتى حين لا يكتبون.
جريدة البيان