يمنحنا المشهد الثقافي العراقي اليوم الكثير من الدهشة الإيجابية بالمنتجات الرائعة، ولكن أيضاً الكثير من الدم الذي يسلط على الإبداع وعلى منتجي الفرح والنور بالاغتيال والقتل باليد السرية.
في سنوات قليلة تمّ تغييب الكثير من الأصوات الفاعلة في المشهد الثقافي العراقي، وكأن هناك آلة طحن مدمرة تمّ تحضيرها في المخابر الاستعمارية الجديدة، حقيقية وليست افتراضية، تعمل على تدمير كل إمكانات التخييل العراقي الذي يستطيع بفضل منجزه الرمزي، ترميم ما خلفه الاحتلال الأمريكي – الداعشي من خراب.
في عام 2017، صدرت «حمّام اليهودي» للروائي العراقي علاء مشذوب، عن دار سطور ببغداد، أثارت هذه الرواية جدلاً كبيراً في موضوعها ونقاشها للمسألة اليهودية في العراق، وهي تستعيد من حيث مسارها السردي قصة عراقي يهودي، سكن كربلاء وكبر فيها، وخدمها بطريقته لأنها مدينة انتمائه المكاني، مدينته الروحية مهما كان الاختلاف الديني، لقد أحبَّ كربلاء بكل رمزيتها، وتوغل في نسيجها الاجتماعي والثقافي كمواطن أوَّلاً، خارج الاعتبارات الدينية، دون أن يتخلّى طبعاً عن ديانته اليهودية، إذ لم يكن مجبراً على فعل ذلك، تمكن بفضل نباهته وعمله الدؤوب من فتح محل لصياغة وبيع الذهب، حرفة أدرت عليه الكثير من المال، فبنى حمّاماً عاماً في المدينة بعد أن لاحظ انعدام ذلك، لكن شُنَّت حملة جهنمية منظمة وصلت إلى تكفيره، وتم تهييج المجتمع الشعبي في كربلاء دينياً، فمُنِع على المسلمين ارتياده، فقط لأن صاحبه عراقي يهودي المعتقد.
وقد لامس الروائي في نصه ضيق الأفق الديني، الذي يجعل من الآخر المختلف عدوّاً، مهما كانت درجة مواطنته عالية، اغتياله كان موجهاً ضد خيار العراق المتنور والجديد، ويبدو أن ما يحدث يتم وفق مخطط مسبق ينتهي بحرمان البلاد العربية من أمرين أساسيين، من مادتها الرمادية، ومن إمكانية بناء أي مشروع ثقافي ديمقراطي، كفيل بتغيير بنيات التفكير التقليدية، باتجاه بنيات أكثر حيوية ودينامية.
أمر دموي مثل هذا ليس خاضعاً للصدفة، فهو يتمّ وفق نظام دقيق بأهداف آنية يقصد من ورائها التخويف وتدمير العراق، واستراتيجية تهدف إلى إبقاء العالم العربي على وضعه كما هو، في حالتي الثبات والتخلف.. هنا نتساءل:
لماذا يُقتل الروائي على الرغم من سلامه وانتصاره للحق؟ وهل أصبحت الرواية تشكل خطراً على الأمة، بمنطق القتلة، وعلى البلاد، والدين، والطائفة، والعائلة؟
لا يحتاج أمر مثل هذا إلى تفكير كبير، القصد هو تدمير النواة الحية لنشوء مجتمع آخر يشبه المجتمعات البشرية التي يحرم منها العربي، الذي كلما رفع رأسه قليلاً عمّا هو مسموح، حصدته الآلة السرية التي لا تريد للعربي أن يرى النور، ولا أن يخرج من دائرة التخلف ليلتحق بالركب الإنساني الذي لا ينتظر.
صحيفة الرؤية