من بين كل الآثار الكارثية لـ«كورونا»، يتوقف الفرنسيون عند واحد يهدد ثقافتهم وتقاليدهم الاجتماعية. جاء في استطلاع جديد لمؤسسة «إيفوب» أن القبلة مهددة بالاختفاء في أوساط الطلاب وزملاء العمل. لماذا من غير شر؟ لأنها تساهم في انتقال الفيروس. توارت العناقات بين الأهل والأقارب أيضاً. وبعد عام من الجائحة ها هي قبلات المجاملة تلفظ أنفاسها في هذه الأمة.
يصل الفرنسي أو الفرنسية إلى المدرسة والجامعة والمكتب فلا يكتفي بتحية الزملاء لفظياً، أو بالمصافحة، بل لا بد من قبلتين على الوجنتين. وهناك من يجعلها أربع قبلات. هكذا جرت العادة. والأمر ذاته يحصل عند زيارة الأقارب والأصدقاء. بل يحدث كثيراً أن يتبادل الأغراب القبلات عند التعارف. أنت تبوس إذن أنت موجود. قبلات بريئة سريعة تصاحب البونجور والبونسوار، لا تلامس فيها، إلا لحاجة في نفس يعقوب. وهي غير تلك التي يتبادلها الأزواج والمغرمون في الأماكن المغلقة، أو على قارعة الطريق.
شعر رئيس الوزراء جان كاستكس بالقلق من ظاهرة تجنب القبلات. خاف على مواطنيه من الجفاف. يعقد الرجل مؤتمراً صحافياً كل أسبوع لإبلاغهم بتطورات الداء وسبل مواجهته. مسؤول مسلكي منضبط ورصين. لكنه لم يتمالك نفسه من التغريد مخاطبا الفرنسيين: «سأكون أسعد رئيس للوزراء يوم أعلن لكم بأننا انتهينا من الوباء ويمكنكم تبادل القبلات». متى البشرى؟ وهل يصلح العطار ما أفسد الكوفيد؟!
يذهب المحررون لاستجواب علماء النفس وخبراء السلوك الاجتماعي. كيف نستعيد عادات ما قبل الجائحة؟ وتأتي الإجابات متذبذبة. إن من لزم بيته خوفاً وحاذر الاقتراب من الآخرين، فلن يخرج من التجربة معافى. سيبقى التوجس مختبئاً في زاوية ما. لا بد من إعادة تأهيل الناس على الطمأنينة وتقبل الملامسة وأنهم لن يُلدغوا من جحر «كورونا». وهناك دعوات لتحويل الحدائق العامة إلى أماكن لهذه الدورات التأهيلية. يلتقي سكان الحي ويتخالطون، بكمامات أو من دونها. يمارسون الرياضة ويستمعون إلى الموسيقى ويرقصون ليتجاوزا الريبة التي زرعها الوباء في النفوس.
يقولون لك إن المصافحة باليد ليست وليدة عصور النهضة بل ظهرت، أول ما ظهرت، في العراق القديم، على يد الملك الآشوري شلمنصّر الثالث، قبل الميلاد بتسعة قرون. خبر يرفع المعنويات، لا يمنع من التفكير في أن الفرنسيين شعب نزق وبطران. طفل أفسده الإفراط في التدليل. غيره يفكر في لقمة العيش وهو يقلق على القبلة. تهرع الدولة لتضع تحت تصرف كل مواطن طبيباً نفسياً عند أي أزمة. ترسل سعاة البريد لتفقد المسنين المستوحدين. تخاف عليهم من افتقاد اللمسات والعناقات ومن تأثير العزلة على صحتهم. تهديهم باقات الورد لترطيب الأجواء. وعلب الشوكولاتة في الأعياد. ومن يتعذر عليه الذهاب إلى مبنى البلدية تصله العلبة إلى البيت. يتعلم الطلاب في المدارس أن الحب عافية، والحرمان منه عقوبة لا يستحقها بشر. طبطب على نفسك. خذها «بالأحضان» مثلما غنى عبد الحليم قبل ستين عاماً.
ثم جاءت الفيروسات وباعدت بين الحاضن والمُحتضَن. قام كامخ سميك بينهما. ويكتب زميلنا البحريني الدكتور حسن مدن: «ثكلتك أمك يا كورونا». غابت أغنية العندليب وحضرت أغنية «سلّم علي بطرف عينه وحاجبه». كلمات عذبة لشاعر مجهول، لحنها وغناها مطرب الريف العراقي حضيري أبو عزيز. ثم نقلها عنه كثيرون، أشهرهم حسين نعمة وعبد الله الرويشد. لا سلام بالقبلات بل بطرف العين والحاجب، من وراء الكمامة. ليت حضيري عاش ليرى أغنيته وقد أصبحت شعاراً للمرحلة.
جريدة الشرق الاوسط