يبرز هيجل بوصفه المفصل البارز عن حال الفلسفة بين صيغها التقليدية وصيغتها الحداثية، وهيجل كما وصفه برتراند راسل هو التتويج النهائي للفلسفة الألمانية وللفلسفة الغربية بعامة وبما أنه تتويج فهو نتيجة لتلك الفلسفة، ويرى راسل أن هيجل انبثاق لكانط ولولا وجود كانط لما وجد هيجل، رغم أن هيجل يحرص على إظهار موقف نقدي من كانط، وفي المقابل فإن هيجل صنع هيمنة واستحواذاً على الفلاسفة الغربيين في أوروبا وأميركا منذ نهاية القرن التاسع عشر، وتظهر آثاره على كبار الفلاسفة إما تماهياً معه أو محاولة لمناكفته، ولكنه كما يرى راسل أخذ في الانحسار عن قوته المؤثرة في المراحل اللاحقة، «تاريخ الفلسفة الغربية 702»، وموقف راسل منه شديد السلبية لدرجة أنه قال بزيف معظم معتقدات هيجل الفلسفية، ولكن هذا الموقف من راسل لم يخرج هيجل من قوته التأثيرية حتى وإن ظل منقوداً، ولعل هذا ما جعل نقاده ينطلقون من الرغبة في منافسة هذا الهرم الذي لا تعشى عنه العيون ولا تغطيه سحابة الزمن، حتى ماركس تلميذه المتمرد عليه ظل تحت سطوة أستاذه عبر حرصه على الانشقاق على أطروحات الأستاذ وتصوراته حول المادة والروح، وكذلك فلن تتضح مقولات راسل المادية إلا عبر مشاغبتها لتصورات هيجل الروحية. وسنرى هذه المنازعة القلقة تتجلى بقوة عند فوكو الذي يشكك في إمكانية قيام التفلسف لو لم يوجد هيجل، وقد قال ذلك في لحظة التدشين العلمي له «نظام الخطاب 64»، فتساءل مشككاً: هل بإمكان الفلسفة أن توجد ولا تكون هيجلية، وهل ما هو مضاد للفلسفة هو بالضرورة غير هيجلي. وهذا يعني أن هيجل موجود في ضمير الفلسفة حتى في حال نفيه أو مناقضته، وراسل الذي يرى زيف معظم معتقدات هيجل هو نفسه من قال إن هيجل هو أصعب الفلاسة العظماء فهماً، مما يعني خطورة هيجل عبر صعوبته وإحساس راسل بالرغبة في نقده، على أن معاندة راسل لهيجل تشير إلى موقف يماثل موقف ماركس من أستاذه حيث اتخذ المعاندة الفلسفية طريقة للتحرر من سطوة الأستاذ، ويظل هيجل شاغلاً لبال الفلاسفة الراغبين بالتحرر منه لأنه خلاصة الفلسفات التقليدية والجامع لأهم التناقضات التي يصعب حلها، ووحده هيجل حاول الجمع بينها حين رأى تآلف المنطق مع الميتافيزيقا وبنى جدليته على هذه الفرضية، وهي التي أثارت راسل، وربما هي التي دفعته للقول بزيف معتقدات هيجل.
أما فوكو، فقد ظل متطلعاً للتحرر من هيمنة هيجل التي تهدده دوماً بأن هيجل مثل الرمال المتحركة تغوص فيها كلما حاولت التخلص منها، ولذا قال إن عصرنا كله سواء من خلال المنطق أو من خلال الإبستيمولوجيا هو عصر يحاول أن يفلت من هيجل… وهذا، حسب فوكو، يقتضي أن نعرف ما الذي ما يزال هيجلياً ضمن ما يمكننا من التفكير ضد هيجل وسيظل هيجل ينتظرنا في نهاية المطاف، حسب عبارة فوكو.
هكذا يشخص فوكو حال الفلسفة، وهي تحاول التحرر من سطوة هيجل في حاليه مقبولاً أو مرفوضاً، صعباً أو زائفاً كما رآه راسل وماركس من قبله، أو ضرورياً وشرطاً لقيام الفلسفة كما يقول فوكو لدرجة أنك لن تفكر ضد هيجل إلا بمعونة هيجل نفسه. وهذه حالة حرجة تجعل الفلسفة بين الخروج «من» عباءة هيجل أي تحت سطوته حتى في معارضته، كونه نقطة الانطلاق ودونه لا يقوم تفلسف، أو الخروج «عن» عباءة هيجل، وهي أيضاً حالة هيجلية بالضرورة كما هو واضح على خطاب فوكو، وهنا تأتي الحاجة لفيلسوف مثل ديريدا يتجه لتقويض الخطاب وتجريده من سطوة فحول الفلسفة.
على أن هيجل المكتمل ادعاءً أو عبر تأثيراته بكل صيغ الفلسفة معه أو ضده هو الذي رأى أن الحضارة ابتدأت في الشرق وانتهت في الغرب بمعنى اكتملت في الغرب وكأنها الشمس تشرق لتترحّل غرباً مع كل إشراق لها، وكان هذا وصفاً واقعياً زمن هيجل، حيث تبدى الشرق حينها وكأنه قد تقاعد معرفياً، ولكن الغرب اليوم يعاني من انكسارات تُهشم العقل الفلسفي من أساسه، فإخفاق المعنى الفلسفي في عجزه عن تحرير العقل البشري من نسقياته القاتلة والمضادة للمعنى الإنسانوي ومعاني العدالة والحرية والمساواة، وتضاد التعددية الثقافية عبر بروز الشعبوية البيضاء وتهتك المعاني الراقية، وحلول صيغ الاستعمار الحديث عبر استعمار المهيمن للمهمش في تكرار لجمهورية أفلاطون وطبقياتها بسادة هم الأقلية مقابل أكثرية مستعبدة مما أحضر نوعاً جديداً من العبودية هو عبودية المعنى أي استحواذ عقليات على عقليات أخر وتسخيرها بفرض نظم فكرية تتحكم بتصوراتها وأفكارها، وهي كلها نتاج لانهيار أخلاقي وفكري يجعل المعرفة في الجامعات فحسب، أما إذا نزلت للشارع تشعبنت وعادت لكتاب أفلاطون بين سادة وعبيد.
هذا الانهيار لا يظهر حالة كمال تنتهي عنده الفلسفة بتتويج على ذروة الحضارة، ولعل هذا المآل هو ما أوجع قلب ريتشارد رورتي وقال بموت الفلسفة، وهو لا يعني ما عناه ستيفن هوكينج حين قال بموت الفلسفة، بل يعني ضرورة البحث عن عودة للروح، ربما بإعادة الربط بين العقل والروح الذي هو مشروع هيجل أصلاً، ولكن رورتي جعل الحل في الشعر وقال إن الشعر وحده هو الذي يمكن أن يغسل الضمير العالمي من وجعه، وكأنه هنا يستلهم هيجل في فنومينولوجيا الروح «العقل»، أو روسو في الفطرة التي يقودنا العقل إليها، وهي بدورها تقودنا لليقين، ولعل هذا ما عناه رورتي فطلبه عبر الشعر ليكون منقذاً للإنسانية من سطوة البشرية. في فارق دلالي خطير بين مفهوم الإنسانية المتعالي والمثالي ومفهوم البشرية النفعي والانتهازي، وهذه ستكون إحياء متجدداً لهيجل بعد تنقيته من عنصريته العقلانية، وروسو معاً بأخذ مفهوم الفطرة وثنائية العلاقة بين العقل والعاطفة «انظر كتابي العقل المؤمن/ العقل الملحد» عن روسو وثنائيته.