لماذا ترجمة جديدة للطاعون؟ – بقلم د. واسيني الاعرج

واسيني الاعرج

لماذا تعاد ترجمة نص بالعربية مرات عديدة من كبار المترجمين؟ سؤال ردده على مسمعي العديد من الأصدقاء، وهو سؤال مشروع، لأنَّ الترجمة ليست فعلا آنيّاً ثانويّاً، إنما هي حاجة ثقافية دائمة.

بداية، لماذا اخترت ترجمة رواية «الطاعون» ولم أختر غيرها؟ وهل لذلك علاقة بالتباسات الحاضر الذي نعيشه اليوم؟ لا نختار ترجمة النصوص اعتباطاً، نحن نعيش زمن الوباء جسداً وروحاً، أي أن الوباء ليس حالة لغوية، لكنه حقيقة مادية، إحساسنا سيكون مغايراً حتماً لأننا جزء من العملية، ومهددون في كل ثانية بالمحو بسبب الوباء.

هذا الإحساس المرعب لا يمكن ألا يكون حاضراً في الترجمة، الوباء كلحظة وجودية مُعاشة حقيقة يصبح الأدب فيها لحظة إثبات جدارة الحياة التي تصبح مجرد احتمال، لهذا نقاوم الإفناء بالكتابة، كما قاومنا الأوبئة الاجتماعية، كالإرهاب واضطهاد الحريات، والحق في الاختلاف وغير ذلك.

هذه الأحاسيس ليست ثانوية ولكنها مهمة في فعل الترجمة الذي أعتبره شراكة ثلاثية حقيقية بين الكاتب، والمترجم الذي يقوم بسحب النص من مساحة لغوية مهما كان اتساعها، والمتلقّي، لا أبالغ إذا قلت إنني أترجم حالياً الرواية بإحساس الموت المسبق، ولا أعلم ما إذا كانت الظروف تسمح لي بإتمام المشروع لكنني مصرٌّ عليه. هذا الإحساس المتضارب والقاسي لن يمر خارج الترجمة بل هو في صلبها وكيانها وعمقها، يضعنا في علاقة متلاصقة مع وباء الطاعون الذي لا يختلف من حيث كونه وباء، عن وباء عصرنا، فنفس الخوف البشري ونفس المشاهد، الآلاف يقادون إلى الردم تحت التراب عميقاً تفادياً لتفشي الوباء، وجنازات باردة على مدّ البصر، انتزعت منها أيّ إنسانية.

هذه المصاحبة الإجبارية مع الموت تؤسس لعلاقة جديدة مع الترجمة، لتصبح علاقة شراكة بين نص مكتوب ونص مترجم، وقارئ ينتظر بنفس أحاسيس الخوف، فالترجمة غير مفصولة عن هذا المناخ. طبعاً، اطلعت على كل الترجمات المتوفرة، وهي قيّمة حتماً، لمترجمين كبار، شيء واحد ينقصها كلها، ذلك الإحساس بالخوف وبالخطر المتربص بالجميع، الذي يمرّ عبر اللغة.

وهناك بطبيعة الحال انزلاقات نصيّة حاولت جاهداً العمل عليها وتقويمها، لأنها تمس المعنى وتمس الجوهر أيضاً، لهذا كتبت مقدمة شارحة، للترجمة العربية الجديدة للطاعون، وجدواها.

فعلى الرغم من مأساوية اللحظة، جميل أن نعيش عصراً وبائياً بنسبة تحدد من خلاله العلاقاتُ الحاجاتِ الثقافية الجديدة، وهذا الحضور الوبائي يسمح لنا بقوة بشم رائحة الموت عن قرب، وفهمها بشكل وجودي عميق عند الكاتب ألبير كامو، وتخرج عن كونها مجرد لغة، رواية الطاعون لحظة مهمة في تجربة كامو، فهي بالمرحلة الثانية من تجربته التي بدأها بمرحلة العبث التي جسدتها رواية الغريب، ومرحلة الثورة التي تجلت في الطاعون، التي احتوت على بعد رمزي أيضاً، تجسدت في مقاومة طاعون النازية، والمرحلة الثالثة عبّر عنها من خلال نصه غير التام: الرجل الأول، الذي رافقه زمناً طويلاً حتى موته دون أن ينهيه، لهذا كله أقدمت على خوض هذه المغامرة الصعبة والشيقة من أجل الانتصار للحياة، حتى في أقصى أشكالها الوبائية.

صحيفة الرؤية