بقلم: عبدالكريم الحجراوي (خاص موقع العويس)
منذ القدم والإنسان مولع بمعرفة المستقبل، وتحايل على استشرافه قبل عصر العلم بالخرافة عبر “السمياء” أي التنجيم، والذهاب إلى الكهان، وتفسير الأحلام عله يستطيع أن يتفادى أي كوارث قد تلحق به مستقبلًا، وكثيرة هي الوقائع التاريخية والأدبية المعروفة عن هذا الولع في مسرحية “أوديب ملكًا” الذي تخبره العرافة بنبوءة بأنه “سيقتل أباه وسيتزوج أمه”، فيسعى أوديب بكل قوة لتفاديها؛ لكن تصدق النبوءة في الأخير دون أن يدري، وفي قصة نبي الله يوسف كان استشراف المستقبل عبر تعبير رؤية حاكم مصر سببًا لنجاة أهل مصر وما حولها من قحط استمر لسبع سنوات، فقد ارتبطت رغبة الإنسان باستشراف المستقبل دومًا بتجنب الكوارث، وفي كتابه “لون الغد… رؤية المثقف العربي لما بعد كورونا” يسعى الكاتب الكويتي “طالب الرفاعي” أن يستشرف عالم ما بعد كورونا. ويعد هذا الكتاب استجابة سريعة لمواكبة أحداث كورونا، وتوثيق مهم لفكر المثقف العربي تجاه ما يمكن أن يكون عليه المستقبل. وقد صدر الكتاب في طبعتين: واحدة في الكويت لدى دار ذات السلاسل، وأخرى في بيروت عن دار منشورت المتوسط. وبمقدمة بقلم المفكر العربي أمين معلوف، جاء فيها: “من يقرأ التوقّعات والتأمّلات التي جمعها ونسّقها الأستاذ طالب الرفاعي في “لون الغد”، تتّضح أمامه صورة عالمنا كما ظهر فجأةً تحت مجهر الجائحة. عالَمٌ لم يعد يثق بالوعود ولا بالعقائد ولا بالقادة. عالم قويّه هزيل، وعظيمه ضئيل، وثوابته زائفة. عالم عليل تائه، يبحث عن بدايةٍ جديدة تغيّر المسار، وتصلح ما أفسده الماضي، وتعيد كافٌة العدّادات اللعينة الى الصفر. أليْس املنا جميعاً أن تكون وقفة كورونا مقدّمة لانطلاق عالمنا، أخيراً، نحو غدٍ مختلف؟
مرت البشرية بأوبئة أكثر فتكًا وقوة من فيروس كورونا، فيكفي القول أن وباء مشابه له يدعى الإنفلونزا الإسبانية في أثناء الحرب العالمية الأولى قضى على أكثر من 50 مليون شخص في أوروبا وأمريكا وفقًا لبعض الإحصائيات ولم تخرج تكهنات تبحث كيف سيكون شكل عالم ما بعد الإنفلونزا الإسبانية مثلا أو ما بعد الطاعون أو الجدري، إلا أن ما يميز كورونا أنه يكاد يكون الوباء الوحيد الذي ضرب العالم كله ولم يعد في منأى منه أحد، ولم يفرق بين دول غنية أو فقيرة، أو تحيز لقارة دون أخرى، وباء جعل العالم ينغلق على نفسه، فكل دولة انكفأت على نفسها محاولة إيجاد وسيلة للنجاة منه، شل الحياة بأجمعها من دور عبادة وتعليم وحث على الانعزال ما عرف بالتباعد الاجتماعي، أي أن ينافي فطرة من التي جبل عليها الإنسان بأنه كائن اجتماعي وطلب منه أن يعطل حاسة اللمس حتى لوجهه. فيروس غير مرئي أصبح العدو للبشرية كلها جرام ونصف فقد منه كافية لإصابة 3 مليون نسمة، وفي ذروة هذا الرعب سعى “الرفاعي” أن يخوض موضوعًا جديدًا وقليل ما كتب عنه المكتبة العربية ألا وهو السعي لاستشراف المستقبل.
استشراف
وتقوم فكرة الدارسة بتوجيه الرفاعي سؤالًا على عدد من المبدعين العرب من 19 دولة عربية للكشف عن تصوراتهم حول عالم ما بعد كورونا، ثم يقوم برصد وتحليل تلك الإجابات وتقسيمها إلى فئات ثلاثة ما بين المتفائلين والمتشائمين وما بين بين أو ما ينتحت لهم وصفًا المتشائلين، وقد شارك في الاستبيان 88 شخصًا موزعين ما بين شعراء روائيين وقصاص ونقاد وأكاديميين، وأصحاب دور نشر، واقتصاديين، وأطباء تربطهم علاقة بالأدب، ومفكرين وصحافيين.. شملت كل الدول العربية فيما عد دول جزر القمر، موريتانيا والصومال وجيبوتي وضمت أيضًا بلد وحيدًا غير موجود في جامعة الدول العربية وهو “إريتريا”.
واتفق المشاركون في الدراسة على أن عالم ما بعد الكورونا سيكون مختلفًا عما قبله؛ لكن جاء الاختلاف في نظرتهم إلى هذا التغيير الذي سيصيب العالم فتسعة عشر شخصا كانت رؤاهم للعالم متفائلة، والغلبة بنحو 45 كانت من نصيب “المتشائلين”، فيما ضمت قائمة المتشائمين 24 اسمًا كانت أغلبهم من الدول العربية التي تعاني من أوضاع بعضها كارثية مثل سوريا التي كانت إجابات أربعة من مبدعيها من أصل خمسة شاركوا رؤيتهم للعالم بعد كورونا متشائمة وعلي رأسهم الشاعر العربي الكبير أدونيس، وديمة سعد ونوس، واثنين من اليمن أصل 4 مشاركين، واثنين من السودان من أصل أربعة، واثنين من فلسطين أصل أربعة أيضا كانت رواؤهم غير متفائلة بالمستقبل.
غلبة لدول التعاون الخليجي في الدراسة
وغلب على المشاركين في الدراسة من ينتمون إلى دول مجلس التعاون الخليجي، حيث تضم الدراسة 31 شخصًا من أصل 88 موزعين كالاتي تسعة من دولة الكويت بلد الباحث، وسبعة من الإمارات، وستة من البحرين وستة من المملكة العربية السعودية، وأربعة من قطر، بنسبة تتجاوز 35% أي أكثر من ثلث المشاركين من البلدان الأخرى التي ضمت خمسة من كل من مصر وسوريا ولبنان والمغرب، وأربعة لكل من الأردن وتونس والجزائر والسودان والعراق وفلسطين واليمن، وثلاثة من ليبيا، وواحد من الدولة غير العربية إريتريا.
ويسعى كتاب “لون الغد” لرسم رؤية للعالم تقدمها النخبة العربية المثقفة للتنبؤ بما يمكن أن يحدث، لذا يقدم طالب مقارنة بين الفوارق ما بين العالمين العربي والغربي الأمريكي، وهل العلاقة ما بينهم هي صراع حضارات، مستشهدًا بمقولة الشاعر الإنجليزي روديار كبلنغ بـ”أن الشرق شرق والغرب غرب ولا يمكن أن يلتقيا” أم يمكن أن يغير هذا الوباء من تلك الوضعية، ويسلط طالب الضوء على الهوة السحيقة التي يستشعرها المثقفون العرب ما بين الغرب والشرق، ويرصد الكتاب أن غالبية المشاركين يتفقون في رغبتهم في انتهاء عهد القطب الواحد المتمثل في أمريكا التي تسيطر على العالم بسبب العواقب الوخيمة التي تسبب فيها من سيطرة المادة على الحياة وتسليع كل شيء حتى البشر.
الإبداع العربي وترجمته عالميًا
ومن القضايا المهمة التي يرصدها “الرفاعي” في عالم ما بعد كورونا قضايا الثقافة وكيف سيكون حالها ومن بينها قضية ترجمة الإبداع العربي إلى الغرب، فالإبداع العربي لا يلقى روجًا في ترجمته لضعف الإقبال عليه، ويشير إلى قول المترجم الأمريكي والأكاديمي “إليوت كولا” الذي يقول إن الأمريكيين لا يهتمون بأي أدب غير مكتوب باللغة الإنجليزية، وأن 2% فقط من الروايات المنشورة في أمريكا مترجمة من لغات أخرى، ونصيب العرب ضعيف جدًا في تلك النسبة الضئيلة أصلا. وبعد أحداث 11 سبتمبر اهتمام الأمريكيين بالرواية العربية كان هدفه الحصول على معلومات سياسية واجتماعية باعتبار هذه الروايات وثائق اجتماعية دون اهتمام على قيمة العمل الأدبية الفنية. تلك القضية كان قد تناولها الدكتور سليمان العطار أستاذ الأدب الأندلسي والمترجم الراحل وبين أن ترجمة الأدب العربي ليست هي المعضلة، فالنشر صناعة وهذه الصناعة تقتضي تعريف الغرب بالإبداع العربي عبر سلسة من الفاعليات الثقافية الكبرى، ومن ثم ترجمة هذا الإبداع كي يطلعوا، موضحًا موقفًا شخصيًا جرى معه حين ترجم لشاعر من العربية إلى الإسبانية إلى أن دور النشر رفضت طباعة العمل دون الحصول على مبلغ مالي كبير لا لضعف المستوى الشعري أو من أجل التربح بأموال الطائلة التي طلبها الناشرون، وإنما من أجل إقامة ندوات عن الشعر العربي عامة وتعريف الشعوب الناطقة بالإسبانية به، ودعايا أخرى من أجل تعريفهم بالشاعر الذي نقلت أعماله إلى الإسبانية.
ولا يختلف الوضع كثيرًا في ترجمة الإبداع العربي إلى الفرنسية حيث تظل الأرقام هزيلة، لذا يقترح طالب أن تقوم جهات حكومية عربية أو أهلية أن تحمل مشروع تعريف العالم بالإبداع العربي، وفق خطة عمل تتيح نشر أعمال كتبانا في كبرى دور النشر الأجنبية. لكن وسط عدم الإقبال على قراءة الأعمال العربية المترجمة يشير “طالب” إلى نموذج “علاء الأسواني” الذي حققت روايته “عمارة يعقوبيان” مبيعات تقرب من مليون نسخة في الغرب وهو ما لم يحققه أي كاتب عربي من قبل، ما جعل بعد الكتاب العرب يظنون أن كتابتهم بطريقة معينة ترضي الغرب من وجهة نظرهم قد تمنح إبداعهم العالمية.
عالم عليل
وتعددت لغة المشاركين في الإجابة على الأسئلة التي طرحتها الدراسة والتي لا تزيد وفقًا لما حددته
الدراسة في كل شهادة عن 500 كلمة، فبعضها جاءت لغته شاعرية، وبعضها جاء بلغة تقريرية بحتة، ومن بين هذه المشاركات المؤثرة، التي تكشف عن مأساوية وباء كورونا ما نقله الشاعر البحريني علي عبدالله خليفة، الذي حاول التواصل مع صديق له من إيطاليا التي تفشى فيها الوباء للاطمئنان عليه، وبعد عدة محاولات رد عليه صديقه هو يريه خلال شاشة الهاتف جثة والده والدته المسجتين بردهة المنزل، ويقول له : قل لي كشاعر ماذا أقول لأطفالي المرعوبين مما يرون أمامهم، فما كان من الشاعر علي عبدالله سوى أن يغلق الهاتف دون أن يستطيع أن ينطق بحرف. فيما يشير الأديب لبناني الفرنسي على غلاف الكتاب إلى أن جائحة قد كشفت تحت مجهرها عن عالم متناقض، عليل بلا ثوابت، القوي فيه ضعيف، لم يعد أحد فيه يستطيع أن يثق بالوعود ولا القادة، صرخة من البيئة تطالب أن تعداد جميع العدادات إلى الصفر، من أجل انطلاقة جديدة نحو غد مختلف.