«الجزيرة الثقافية»:
بمقدار ما في القلوب من مودة، وبحجم ما فيها من انتماءات للأزمنة ومحيطها من الإنسان، والذكرى، وعصارة التجربة؛ فإني أطمح في تواصلي معكم أن نتشارك وإياكم أحاديثكم، ورؤاكم وشهادتكم المعاصرة عن تجربة الأديب والناقد محمد العباس؛ باعتباره شخصية أدبية اهتمت بالنقد بجميع فروعه، ولتجربته المختلفة في تقديم مؤلفاته بأسلوب مميز ومختلف، ومعظمها نابع عن ضميره الإبداعي المخلص لتجربته، والمحب لطبيعته، والطامح لنهضة أدبه السعودي، ولعشرات الاعتبارات الأخرى: فهو الناقد المهتم، والباحث، والمؤلف الذي لامست أعماله الهم الاجتماعي، والبعد الفكري، والبنية المعرفية، والأساليب الناقدة التي بتبعها بشكل متقن، ومتجدد باستمرار.
وهنا وبهذا الملف المُخصص للاحتفاء بتجربته النقدية، ومدرسته الخاصة لا تسلط الجزيرة الثقافية عليه الضوء بمقدار ما تستمد منه الضوء لقرائها، ومتابعي تجربته والمهتمين بها، ولعلنا نقرع باب أديبنا وناقدنا العباس بدءاً بمحاورته حول تجربته الممتدة لثلاثة عقود مضت، فإلى نص الحوار:
لقد تهت في تتبعي لتجربتكم، وخلصت لرؤى عدة، واحدة منها: شعرت كما لو أنكم تتبّعون مناطق الاختناقات داخل النصوص التي تقعون عليها فتدفعون داخلها بحمولتكم الذهنية، فإما تتوسع وتتسع لها، وبها رئة التلقي، وإما تظل في اختناقاتها، وكأني بكم تقولون: «هذا ما عندي، وبلّغته لكم، وأنتم أحرار؟». هل تجدون شعوري هذا بمحلّه؟
– ليس تمامًا، وإن كان النقد بشكل ما من الأشكال ينطوي على ذلك البعد الرسائلي، بالمعنى التحاوري للكلمة. أي استجواب الذات المنتجة للنص من خلال استنطاق النص.. وذلك ضمن حالة مفتوحة من التفاوض على حمولات النص المضمونية والفنية. والناقد بهذا المعنى هو في محل القارئ النوعي الذي يتفاوض بذخيرته المعرفية والجمالية مع سيرورة النص، في إطار قراءة مفتوحة، تعي تمامًا ألّا كتابة بريئة، كما يقول رولان بارت؛ وبالتالي لا قراءة بريئة أيضًا. وهذا هو ما يحتم صلابة الذات القارئة، ونصاعة أدواتها اللازمة لمقاربة النص شريطة عدم تمديد النص على كرسي الاعتراف.
* كتباكم الأخير «تويتر مسرح القسوة» هل هو فحص اجتماعي، أم تنبيه على ما يحتويه هذا المسرح الأزرق من اجتراء واجترار فكري حديث، قد يهدم أبنية شاهقة في ثوانٍ، وبأحرف لا تتجاوز 280 حرفاً فقط؟ ثم هل يمكننا اعتباره مختبراً صالحاً لتحليل وسائل الشراسة والعدوانية المجتمعية؟
– هو بمنزلة قراءة للجانب المعتم من هذا الموقع الاتصالي التفاعلي الذي صار محلًا للمثقفين البرابرة، وليس فقط لمجمل مرتادي الموقع من مختلف الفئات والأطياف؛ إذ تنمو فيه خطابات المثقفين التأزيميين، المنذورين لتفتيت المعنى.كما تتوالد في جنباته النخبة الطائفية بمعناها المتعالي معرفيًّا. وهنا مفارقة موجعة، محتمة بأجواء الغابة التويترية، وما يتأتى عنها من إعلام جمهوري يهدد السلم الاجتماعي، ويهز أركان المجتمع المدني. وهو بهذا المعنى يحقق صيغة المختبر النموذجي لقراءة ما وراء العدوانية اللفظية، وفحص الجهاز المفاهيمي للمغردين الطافحة خطاباتهم بالطائفية والعنصرية والكراهية والاستعلاء وعُقَد التفوق.. الذين جعلوا من قيمة التبادل الحر للأفكار معركة مفتوحة للتجريف الأخلاقي والثقافي والجمالي.
* برأيكم هل ينتمي الناقد محمد العباس إلى المدرسة النقدية (الخشنة) أم إن رؤاه وأدواته التي يستلهمها من معينه الخاص هي التي صورت لدى الذهن المتلقي أنه -بالفعل- توجد مدرسة نقدية خشنة، ورائدها العباس؟
– لا توجد مدرسة نقدية خشنة وأخرى لينة؛ فالنقد عملية إبداعية في المقام الأول، تستجوب النصوص بلغة تماهيها. ولا أدري بصراحة من هو هذا المتلقي الذي استنتج هذا التصنيف؟ وعلى أي أساس أدبي اعتمد في حكمه؟ حتى إطلاق حكم القيمة الذي تخلت عنه الدراسات النقدية الحديثة لا يعتبر ضمن الأدوات الخشنة. وأعتقد أن اللغة التي نستخدمها في مقاربة النصوص خالية من حس الشخصنة وتضئيل قيمة النص أو الذات المنتجة له. وأظن أن من يتبنى ذلك التصور إنما استمده من صلابة الموقف النقدي إزاء عثرات النصوص. وكأنه يطالب بالتغاضي عنها أو تبريرها. وهذا يخالف منهجية ووظيفة النقد. والتاريخ النقدي حافل بالمصادمات والآراء المتضادة. وأعتقد أن من يصنفني في مدرسة الخشونة النقدية يحتاج إلى مطالعة أوسع في الممارسة النقدية، كما أحتاج إلى أن يعرفني على وجه الخشونة في تقارباتي. أهي على مستوى اللغة، أو الآراء، أو التحليل، أو الأحكام، أو الأسلوب؟
* في إحدى أمسياتكم النقدية أعطيتم الطبقة الوسطى قدرتها على التغيير، بينما سلبتم الطبقة الدنيا (الفقيرة) دورها في ذلك.. وبالنظر إلى معظم النصوص سنجد بطولاتها وأحداثها قائمة على هذه الطبقة الفقيرة والكادحة؛ فكيف يمكننا – من وجهة نظركم – الربط نقدياً بين الطبقتين؟
– نعم، الطبقة الدنيا هي الموضوع الأثير للأدب، ولكن الطبقة ذاتها لا تستطيع التعبير أدبيًا عن واقعها واشتياقاتها. مقابل الطبقة الوسطى المسؤولة دائمًا عن التغيير، بما هي ضمير اللحظة، وخزان الوعي المجتمعي، وصانع رسائل الحراك الاجتماعي. وهي صورة تكشف عنها مستويات النصوص الأدبية السعودية إذا ما تم ربطها بالفضاء التاريخي الاجتماعي الذي أنتجها. وهو أمر يبدو على درجة من الوضوح في كل الموجات التغييرية والعقلانية والتنويرية التي عبرناها، والتي ما زالت تتشكل ضمن فضاء إنساني مزدحم بعناوين الهوية والأصالة والخصوصية، ويتم التعبير عنه بواسطة الأدب؛ إذ يمكن التذكير بمعركة الحداثة التي دفعت فيها الطبقة الوسطى الوعي إلى الأمام. وهذا ما تفصح عنه من الوجهة البنيوية طبيعة العلاقة ما بين البنية والتاريخ؛ إذ تحاول الطبقة الوسطى اليوم المتموضعة في منتصف الهرم الاجتماعي، المعروفة بإيجابيتها وبنائيتها، التماسك في ظل تآكل واضح لأطرافها؛ وذلك بسبب اتساع الطبقة الدنيا داخل حواضن الطبقة الوسطى، وتمدد هامش الصحويين والمؤدلجين. وهو الأمر الذي يهدد المنتج الأدبي بالفعل.. بما أنها رأس المال الثقافي بتعبير ماكس فيبر.
* المتتبع بعمق لمشهدنا الثقافي السعودي سيراه يمر بخفوت روائي غير مقنع، ونماء طفيف في أنواع أدبية أخرى، كالقصة والمسرحية، مع استعادة القصيدة حيويتها بعض الشيء. برأيكم، هل المنتج السردي لدينا قادر على العودة لأمجاد التسعينيات وما تلاها بقليل أم إنّ ما ذهب لن يعود؟
– بالعكس؛ فالمنتج الروائي على مستوى الكم يتحرك بوتيرة تراكمية متسارعة، سواء بالنسبة للأسماء المعروفة في المشهد، أو المراودات الجديدة، ولكن المأزق يكمن في خمول المشهد بوجه عام. بالنظر إلى عدم وجود المنتج الروائي الاستثنائي، فالرواية التي كان يُنظر إلى صدورها في التسعينيات كحدث ثقافي؛ لأسباب لا ثقافية في المقام الأول، لم يعد اليوم يُنظر إليها اليوم إلا كإضافة كمية. عشرات الروايات تصدر بين حين وآخر.. ولكنها لا تحظى بقراءات نقدية، ولا تغطية إعلامية، ولا لقاءات صحفية. وما تسميه بأمجاد التسعينيات يحتاج إلى قراءة تتجاوز الروايات إلى الفضاء الثقافي الذي أنتجها؛ إذ لم يكن بإمكان الخطاب الروائي أن يتوطن في المشهد لولا محايثة النقد الروائي – مثلًا – وبالتالي نحن بحاجة إلى استعادة بنية ثقافية متكاملة عوضًا عن استدعاء رواية. فبعد هذا الفاصل من إنتاج الروايات، وحصد الجوائز والاحتفالات، صار لزامًا علينا نحن المعنيين بالشأن الروائي التفكير في حل المعضلة الفنية للمنجز الروائي لتجسير الصلة مع القارئ في المقام الأول. وهو إشكال لا يمكن لأي ناقد ترميمه مهما بالغ في تصعيد هذه الرواية أو تلك. وهو مأزق لا يبدو ضمن سلم أولويات الروائيين ضمن مشهد يدفع للاسترخاء.
* لو أردنا تتبُّع الانقلابات الثقافية، وقلنا – افتراضاً – إن تويتر هو الانقلاب الأول، فهل يمكننا اعتبار وباء (كورونا) انقلاباً ثانياً؟ أم إنكم ترون تنبؤات بتقسيمات أو انقلابات ثقافية أخرى من خلال قراءتكم ورؤيتكم الفاحصة؟
– تحقيب المشهد الثقافي بأحداث سياسية أو عسكرية أو وبائية لا يؤخذ بهذه البساطة؛ فهناك مَن يقرأ سقوط بغداد على يد المغول كحالة انقلاب ثقافي كبرى في التاريخ، وهناك من يعتبر هزيمة 67 مرحلة سقوط أخرى، وهكذا يُنظر إلى غزو الكويت. ولا شك أن لبروز السوشال ميديا بهذه الوحشية أثرها على النظام الثقافي. وهي فكرة مقروءة ولو بشكل عابر في الفضاء العربي. تمامًا كما تبدو محاولة ربط كورونا بتحولات ثقافية أخرى أمرًا ملحًا. ولكن كل تلك أحداث كبرى ذات تأثيرات بنيوية عميقة؛ وتحتاج إلى قراءات تحليلية ضمن سياق ثقافي، يحدد في البداية مفهوم النظام الثقافي وأبرز أركانه؛ حتى تتم قراءته بشكل منهجي، لا أن نتورط في العناوين الخالية من الرصيد التحليلي. وهي مهمة لا تقدر عليها إلا المؤسسات ومراكز الأبحاث.
* كتابكم (نهاية التاريخ الشفهي) – من وجهة نظري – جاء ليفسر النص الروائي بطريقة ماسحة لمجمل النتاج السعودي المتشابه، ملخصاً إياه بأنه منطوف من بئر واحدة.. فما النص الروائي السعودي المأمول والمرجو برأيكم؟
– الكتاب لا يمارس المحو لمجمل الإنتاج السعودي المتشابه بقدر ما يشدد على قيمة انقضاء الحكايات الشفهية واستئناف التدوين. وهذا يأتي ضمن رؤية تنظيرية لسبب نشأة وطفرة الرواية في السعودية، وذلك بقراءة الأسباب السوسيوثقافية لذلك الصاعق الحداثي الذي ولّد الرواية، وتأصيل دوافع السرد بمعناه الأدبي. أي الاقتراب من مستوجبات عالم المدينة كشرط من شروط إنتاج الرواية، وهو ما يعني تفكيك سحرية خطاب القرية، وإنهاض خطاب المدينة. وذلك ضمن حركة اجتماعية تاريخية، جعلت من الرواية لسان اللحظة المعبِّر عن كل ما يهجس به إنسان هذه الأرض، حيث واقعية وخيالية السرد مقابل شفاهية الخطاب، وحيث النص المركب ثقافيًّا قبالة المحكي؛ وهذا هو ما يؤدي إلى الخروج من خرس ما قبل الرواية، وتفتيت بنية الصمت بحركية الحضور. وهذا هو مغزى الكتاب، أي الدفع باتجاه نص على درجة من التفاعل مع أشكال الوعي كافة، الثقافي والسياسي والاجتماعي والنفسي والتاريخي، المتمثل في الرواية، بما هي نص لذات تتغير، وتعي أنها تتغير، وتعبّر به عن تحررها الثقافي.
* بصفتكم أحد المشتغلين والمهتمين بالنقد، هل كان للخطاب الديني خلال عقود ازدهار الرواية السعودية، وما تلاها، آثارٌ سلبية، أم إنّ الخطاب السردي بقوّته، والسارد بخبرته، استطاعا تجاوزه، ولم يتأثرا به؟
– علاقة الرواية بالخطاب الديني لها وجوه عدة، أبرزها التصادم المباشر ما بين أصحاب الخطاب الديني المحافظ الذي شكّل له ظهور الرواية فرصة للإجهاز على التيار التنويري من خلال فضح ما سموه بالمخالفات الشرعية، مقابل تيار روائي استخدم الرواية لمجابهة التيار الصحوي. وإذا كان بعض الروائيين قد استمرؤوا فكرة حقن رواياتهم بقيم الليبرالية والعلمانية لاستفزاز المحافظين فإن بعض الصحويين وجدوا في هذا التحدي فرصة أيضًا للنجومية باعتبارهم حماة الدين. وهنا ظهرت معادلة التخادم بين الطامحين إلى النجومية؛ إذ أدى ذلك الصراع المحتدم في الهوامش إلى تأخير نضج الرواية المحلية، بالنظر إلى كثافة الاشتغال على سطوح التباين ما بين الطرفين. لكنّ الأكيد أن ظهور الرواية شكّل عملًا بطوليًا ثقافيًا، لا يستهان به إبان سطوة الصحوة؛ حيث جاءت الرواية كخطاب مجاور للخطاب الديني الذي كان قد تمكن من إغلاق الفضاء الاجتماعي بعد أن استحوذ عليه. وبذلك ساعدت الرواية بشفراتها الليبرالية والعلمانية في تعزز ممكنات المجتمع المدني؛ إذ تصاعدت الروح الفردانية على إيقاع الكتابة الروائية، أو هكذا بدت تلك الكتابة كانتفاضة لتجاوز الروائي إلى الحياتي. ووفق مبيان القوة، بتعبير ميشيل فوكو، لم يعد أمام الخطاب الديني إلا الإقرار بضرورة التجاور مع الخطاب الروائي، بما يعكسه من قوة جماهيرية؛ إذ بدت الرواية حينها كمصب للحداثة الاجتماعية بما كانت تختزنه من قوة تعبير هائلة عن كل القضايا والهواجس. وهو مآل حتمته تلك المواجهة التي استولدت الرغبة في تحطيم التابوهات من الناحية الموضوعية، وتشكيل ظاهرة أدبية قوية متمثلة بالرواية، من الوجهة الإبداعية. والذي لا شك فيه أن الرواية بما هي موضوع خطابي بالدرجة الأولى أحدثت هزة في الوعي الجمعي بمقتضى ذلك التجابه الحاد، الذي أخذ بالخفوت فيما بعد لصالح النصاب الأدبي، واستيعاب كل فورانات المجتمع.