في العقود الثقافية الثلاثة الماضية في الإمارات، بقدر ما كانت هناك نقلات نوعية على يد الكتّاب الإماراتيين في الشعر والرواية والقصة والمسرح والفن التشكيلي، كان هناك في المقابل غياب فادح ومؤثر لعدد من رموز الكتابة والإبداع الأدبي في هذه الساحة التي تعتبر حديثة نسبياً، قياساً إلى نشوء المؤسسات الثقافية المحلية في منتصف الثمانينات، وبدأ حصادها الثقافي الفعلي في التسعينات.
غاب عن الساحة الثقافية شعراء وقاصّون ومسرحيون وتشكيليون كانوا على درجة كبيرة من الأهمية، سواء في إنتاج الثقافة أو في الإسهام الفعلي في مؤسسات الثقافة والفنون في الإمارات: حبيب الصايغ، سلطان بن علي العويس، صالح القرق، أحمد أمين المدني، أحمد راشد ثاني، محمد بن حاضر، مريم جمعة فرج، جمعة الفيروز، ناصر جبران، علي العندل، حسن شريف، سالم الحتّاوي، ثاني السويدي، وغيرهم ممّن رحمهم الله، وقدموا أدباً صافياً وفنوناً راقية هي من صميم روح المكان، ومن قلب الثقافة المحلية الشعبية.
هؤلاء الراحلون «الأحياء» في الذاكرة الثقافية الإماراتية، والذين قام على أقلامهم وثقافتهم مشهد الثقافة والأدب المعاصرين في الإمارات، بعضهم أنجز كتباً قليلة في مجاله تخصصه الأدبي أو الثقافي (كتاب أو اثنين أو ثلاثة) والبعض أنجز أكثر من ذلك في الشعر والرواية والقصة والنثر عموماً، والبعض من هؤلاء الراحلين لديه في أرشيفه الشخصي وفي حوزة ورثته، الكثير من الكتابات التي لم تنشر وهي مجرد مخطوطات أو ورقات محفوظة في صناديق مغلقة.
هذه دعوة إذاً موجهة إلى المؤسسات الثقافية الإماراتية المحلية، ونحن على أبواب احتفال الدولة بالعيد الذهبي الوطني الخمسين، لتعمل هذه المؤسسات ومن باب الاقتراح على:
أولاً: إعادة طباعة المجموعات القصصية والشعرية والأعمال الروائية والأدبية جميعها التي صدرت لهؤلاء الراحلين في الثمانينات والتسعينات، ونأمل هنا أن تتولى لجنة متخصصة منبثقة عن اتحاد كتّاب وأدباء الإمارات، ووزارة الثقافة، والدوائر الثقافية المحلية، جمع النتاج الأدبي المنشور للراحلين وإعادة طباعته في كتب تليق بالقيمة الأدبية والقيمة التاريخية لهذه المؤلفات الإماراتية، التي مر على صدورها أكثر من ثلاثة عقود.
ثانياً: في إطار هذا الاقتراح أيضاً، تتولى اللجنة التنسيقية المؤلفة من كتّاب يمثلون الدوائر الثقافية المحلية والوزارة، واتحاد الكتّاب، أو يمثلون كل جهة على حدة، إذا أرادت هذه الجهة أن تتولى وحدها إعادة طباعة التراث الأدبي للكتّاب الإماراتيين الراحلين.. أقول، تتولى هذه اللجنة البحث عما هو مفقود أو مخزون أو مُغلقة عليه صناديق وأرشيفات الكتّاب الراحلين الإماراتيين، وهذه مهمة ثقافية إماراتية وطنية على درجة كبيرة من الأهمية.
في هذا الإطار؛ أي في إطار أرشيفات وصناديق و«مخزونات» الكتاب الراحلين في بيوتهم أو عند ورثتهم، هناك مواد ثقافية يجري دائماً التساؤل عن مصيرها.. وأين هي؟، وهل من الممكن أن تُشكَّل لجان للبحث عنها والحصول عليها، وبالتالي، نشرها محلياً بوصفها جزءاً من التراث الأدبي الإماراتي الحديث الذي مرت عليه الآن خمسون عاماً منذ بداية قيام الدولة وحتى اليوم.
أكثر من كاتب وباحث إماراتي أشار إلى رسالة دكتوراه للشاعر د. أحمد أمين مدني حصل عليها من إحدى الجامعات في لندن، فأين هذه الرسالة الثقافية؟ وهل من الممكن نشرها، وبالتالي، إضافتها إلى التراث الشعري والثقافي للشاعر أحمد أمين المدني، وهو من الأعمدة الأولى ليس في الشعرية الإماراتية فقط؛ بل وأيضاً في الشعرية العربية، وهو الذي كان صديقاً لبدر شاكر السياب في بغداد أثناء دراسته هناك في ستينات القرن العشرين.
وللدكتور أحمد مدني صداقات وعلاقات ثقافية مع كتاب إنجليز في أثناء دراسته في لندن، ولا يُستبعد أن تكون له مراسلات مع أولئك الكتّاب، وقد تكون هذه المراسلات موجودة في أرشيفات ومخزونات د. مدني.
قبل سنوات تحدث الشاعر والرسام الإماراتي محمد المزروعي عن مجموعة من «الكراتين» تضم كتابات لم تُنشر لأحمد راشد ثاني، وقد كشف المزروعي عن هذه الكتابات بعد رحيل أحمد، فإذا كانت هذه «الكراتين» موجودة في مكان ما، ويعرف محمد المزروعي أين هي، فهي بالفعل ثروة أدبية إماراتية يتوجب الكشف عنها، فضلاً عن ضرورة إعادة نشر شعر أحمد راشد، وضرورة نشر مسرحية له كتبها وهو في العشرين من عمره.
هناك أوراق ومخطوطات ودفاتر شعرية وقصصية كثيرة تخصّ جمعة الفيروز، وقد تكون هذه الأوراق والدفاتر في حوزة أبنائه أو عائلته، لكن الأقرب إلى الفيروز في رأس الخيمة هما الشاعران: أحمد العسم، وعبدالله السبب، ويمكن من خلالهما التوصل إلى ما لم ينشر من قصص وشعر جمعة الفيروز.
في الثمانينات والتسعينات بشكل خاص، كان حسن شريف يكتب من وقت إلى آخر؛ بل «شبه منتظم» في الملحق الثقافي لجريدة الخليج، مواد ذات طابع فكري فلسفي فني عن أعمال فنية تشكيلية إماراتية، وخاصة ما يتعلق بالفنانين الشباب آنذاك، الذين كانوا في إطار المرسم الذي أسسه حسن. ومن المؤكد أن هذه المواد موجودة في أرشيف جريدة الخليج الثقافي أو في أية أرشيفات أخرى، وتستطيع لجنة تقصٍ لهذه الأعمال الكتابية أن تجمعها من تلك الأرشيفات إذا توفرت الإرادة لإدارة جمعية التشكيليين الإماراتيين.
هناك قصائد عمودية، خليلية قيلت في الكثير من المناسبات الوطنية الإماراتية للشاعر حبيب الصايغ، ومن المعروف أنه قد صدرت الأعمال الشعرية «الكاملة» لحبيب الصايغ في جزأين عن اتحاد كتّاب وأدباء الإمارات قبل سنوات قليلة، ولكن هذه الأعمال الشعرية هي في حقيقتها ليست كاملة، فلا تتضمن الشعر العمودي لحبيب الصايغ وهو كثير، وبالتالي، يُحتاج إلى لجنة جمع وبحث وتقص في أرشيفه الشخصي، وفي أرشيفات الصحف المحلية، وخاصة مرحلة مجلة «أوراق» التي كانت تصدر في لندن.
شعراء، وكتّاب، وقصاصون، وكتّاب مسرح، وكتّاب جماليون في الفنون والآثار والمعمار فقدتهم الساحة الثقافية الإماراتية في العقود الماضية، وإلى جانب هؤلاء الرواد والمؤسسين؛ بل و«المؤثرين»، فقدت الساحة الثقافية الإماراتية الكثير من الكتّاب العرب المقيمين الذين أسهموا في بناء الثقافة الإماراتية، ويستحق هؤلاء الراحلون أيضاً، أن تعاد طباعة أعمالهم الأدبية من خلال مؤسسات نشر إماراتية، من باب الوفاء والتقدير للكتابة.. روح الحياة.
جريدة الخليج