أهداني المترجم المصري القدير لطفي السيد منصور قاموسين انتهى من ترجمتهما أخيراً، فأثار في نفسي سؤالين عن أهمية وجود مفاتيح للفهم والمعرفة تسهم في تطوير التعليم في العالم العربي، وكذلك الدور الحيوي الذي تلعبه الترجمة عن مختلف اللغات وفي الموضوعات كافة، في تقدم العرب حالياً، عطفاً على ما جرى في زمانهم الأول، حين قادت الترجمة إلى تعزيز نهضتهم وبناء حضارة إسلامية عاشت متسيدة لسبعة قرون.
كان الأول هو «قاموس الفكر السياسي» والثاني «قاموس التداولية»، وهما كتابان في موضوعين مختلفين من حقول المعرفة الإنسانية، ومتفاوتين كذلك في اهتمام الناس بهما، فالأول يمس شأناً يتمدد ويصل إلى كل شخص، سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، والثاني هو موضوع متخصص يتعلق بدوران اللغة وتطورها على الألسنة بما هو أبعد وأعمق من معانيها المعجمية.
طالعت الكتابين سريعاً، ثم وضعتهما في مكان داخل مكتبتي مخصص للموسوعات والمعاجم والقواميس، أعرف قيمته ومكانته، لاسيما حين أكون بصدد إعداد بحث جديد. فبعد تحديد الموضوع بدقة تأتي مرحلة طرح المصطلحات، عطفاً على القول الشهير لفولتير: «قبل أن تحدثني حدد مصطلحاتك»، فمن دون هذا قد تضطرب الأفكار وتتضارب وتنشأ أنماط عديدة من سوء الفهم، ولا يمضي البحث في طريق سليمة.
انتبهت إلى أن «قاموس الفكر السياسي» هذا، والذي ألفه ثلاثة من العلماء الفرنسيين هم «أوليفيه ناي» و«يوهان ميشيل» و«أنطون روجيه»، يُمنح لطلاب الصف الثالث الثانوي في فرنسا، ليستعينوا به في دراستهم، وقت الحاجة إليه، وهي مسألة تفتقدها أغلب المراحل الدراسية في العالم العربي، من أسف شديد. ولو عرفنا أن هذا القاموس يضم مائة وثمانية وعشرين مفهوماً وعلماً من أعلام الفكر السياسي، لأدركنا مدى أهميته، لاسيما أنه يعرض في يسر وبساطة مسارات الفكر السياسي ورموزه ومناقشاته الكبرى على مدار العصور، وعلاقات مفاهيمه بالتطورات السياسية والاجتماعية في أنحاء الأرض.
أما «قاموس التداولية»، الذي ألفه «جوليان لونجي» و«جورج إيليا سرفاتي»، فيتضمن أكثر من مائة وثلاثين مادة عن فلسفة اللغة وفلاسفتها، ومدارسها، وتياراتها، وقواعدها، وتراكيبها ودلالاتها، وألوان بلاغتها، وكيف تطورت على ألسنة الناس لتؤدي أغراض الإفهام والتواصل، وإن كان قد اقتصر في هذا على المنظور الفرنسي، ولم يمتد ليشمل نظيره الأنجلو ـ أميركي، لكن يشفع له أن الفرنسيين قد برعوا في هذا الحقل، وتصوراتهم في علم الاجتماع، بما في ذلك دور اللغة وسيمائياتها، متقدمة على ما عداها.
راق لي في هذين القاموسين وضوح الترجمة وسلاستها، وهي مسألة مهمة، لاسيما في الموسوعات والقواميس والمعاجم، لأن من يلجأ إليها كي يفهم، لا يجب أن يجد باب الفهم موصداً بسبب ترجمة معتلة أو غامضة أو قاصرة أو جانحة. وهذه مسألة يجب أن تراعيها المؤسسات التي تعكف على الترجمة في العالم العربي مثل «المركز القومي للترجمة» في مصر، و«مشروع كلمة» في الإمارات العربية المتحدة، وكذلك ما تقوم به بعض دور النشر الخاصة، وجميعها يدرك أهمية الترجمة بالنسبة للباحثين العرب في مختلف حقول المعرفة الإنسانية والبحتة.
في الوقت نفسه، يثير هذان القاموسان قضية تخص مدى ضرورة التفات وزارات التربية والتعليم في البلدان العربية إلى أهمية تأليف قواميس ومعاجم مبسطة في بعض المعارف والعلوم المهمة تسلم إلى التلاميذ والطلاب، في نهاية المرحلة الإعدادية والثانوية، على أن يقوم المعلمون بتدريب تلاميذهم على كيفية التعامل معها، بوصفها مفاتيح مهمة لمن يسعى إلى استزادة معرفية، وباعتبارها أيضاً اختصاراً للمسافات في الفكر والعلم.
جريدة الاتحاد