ما يهدد بلدان المشرق وشمال أفريقيا، ليس الفقر المادي، ولا الأمراض أو الأوبئة المتفشية، ولا فوضى العمران، ولا اللاعدالة، ولا غياب نظام الأمومة والولادات. ما يهدد هذا العالم هو الأمية الثقافية. فالأمية الثقافية هي سبب ما ذكرناه أعلاه وأكثر.
نسمع كثيراً من الخطابات السياسية الموهومة في الانتصار، وهي تقدم إحصائيات دونيكشوتية عن نسبة التعليم في هذا البلد أو ذاك، وعن عدد المدارس والتلامذة وعدد الجامعات والطلاب وإلخ… حين نسمع مثل هذا الخطاب الانتصارية نعتقد بأن البلد الذي يعنيه هذا المسؤول أو ذاك قد تخلّص من الأمية ودخل جنة التقدم والحضارة من بابها الواسع. لكن الواقع يقول عكس ذلك، إذ إن المدارس في غالبيتها تكرّس الأمية الثقافية ببرامجها التربوية المحشوّة بالعداء لكل ما هو إبداعي وفكري متسلح بالأسئلة الوجودية والحضارية الجادة. ففي الجزائر مثلاً، كما هو في كثير من دول شمال أفريقيا والمشرق، تمكن الإخوان المسلمون من مفاصل المدرسة منذ السبعينيات، فأسسوا شيئاً فشيئاً جبهة معادية للثقافة والفن ولكل ما يمكنه أن يجعل المتعلم إنساناً متوازناً وقادراً على التفكير والإبداع. لذا، المدرسة بنظام التعليم المتبع حاليّاً وبالجهاز البشري التربوي المشرف عليها، إن لم يكن برمته فغالبيته، هي أول من ينتج “الأمية الثقافية” ويشجّع عليها من خلال كذبة “محو الأمية الحرفية أو الأبجدية”.
فنظام التعليم المدرسي والجامعي القائم حتى الآن لا يسمع بضمان تنمية مستدامة، لأن مثل هذه التنمية تتطلب توفر إنسان منسجم مع المحيط العالمي والجهوي ثقافياً وسلوكياً. وهذا الانسجام لا يكون إلا بمحو الأمية الثقافية التي تخلق حواجز رهيبة بين الشعوب والثقافات والديانات واللغات.
لا معنى لمحو الأمية “الحرفية” أو “الأبجدية” في ظل أمية ثقافية. فكثير من المتعلمين ذوي الشهادات الجامعية أصبحوا إرهابيين وتحولوا إلى قتلة وأعداء للآخر المختلف عنهم دينياً أو ثقافياً أو لغوياً.
والمدرسة التي لا تعلم الانفتاح وفلسفة العيش المشترك، ولا تعلم الاجتهاد في التفكير، هي مدرسة تكرس الأمية الثقافية، مهما كانت درجة الشهادات التي تقدمها. وهي مدرسة تعلم “الكراهية”.
والبلد الذي تتفشى فيه الأمية الثقافية، بغض النظر عن نسبة التَّمَدْرُسِ فيه، هو بلد لا يمكنه أن يوفّر أمنه الغذائي وأمنه السياسي وأمنه العسكري. بالتالي، يُصنف ضمن الدول المتخلفة.
لا يُصنع مواطنُ الغد، الإيجابي المبدع، في ظل نظام تربوي يكرس الأمية الثقافية ويعلم الحروف الأبجدية!
والبلد الذي تتفشى فيه الأمية الثقافية تتفشى فيه ظاهرة الاستهلاك غير المقنن.
ولعل ظواهر العنف الاجتماعي والعنف ضد المرأة والعنف ضد الحيوانات والعنف ضد الطبيعة، هي من نتائج انتشار الأمية الثقافية قبل الأمية الحرفية أو الأبجدية. فالمواطن الذي يعيش في ظل أمية ثقافية شاملة وشمولية، مهما كانت درجة تعليمه، ومهما كانت وظيفته ودرجتها، يتحول بسهولة إلى وحش اجتماعي يمتلك بداخله قدرة كبيرة على الهدم والتخريب والقتل أكثر من أي بذرة أمل أو حس بنّاء أو تسامح إنساني.
وكل مجتمع تسود فيه الأمية الثقافية تتفشى فيه ظاهرة العداء الجماعي ضد السينما والموسيقى والرقص والكتاب واللوحة والمسرح. ومجتمع في هذه الحال، مهما كانت ثروته الطبيعية، هو مجتمع ذاهب لا محالة إلى الهلاك والتبعية الشاملة.
ويجد الإسلام السياسي والفكر المتطرف وكل أشكال الشذوذ الفكري تربة خصبة للنمو حيثُ تسود الأمية الثقافية، وحيث تحارب الفنون والإبداعات بشكل عام. لذا، فالبلدان التي يتعاظم فيها التطرف الديني بكل أنواعه هي مجتمعات تغيب فيها الثقافة والفنون والآداب كحالة اجتماعية، وتهاجر منها النخب نحو آفاق أخرى.
والبلدان التي تعم فيها الأمية الثقافية تسود فيها الأنظمة الديكتاتورية، لأن مثل هذه الأمية هي حاضنة تلك الأنظمة. وتلك الأنظمة تساعد على توسيع الأمية الثقافية وتثميرها. لأن كل مجتمع ثقافي قادر على أن يؤسس لمقاومة الظلم واللاعدل ويطرح سؤال الديمقراطية وسؤال السلطة من باب حضاري. وهو ما يخيف الأنظمة الديكتاتورية التي تفضل العيش في مجتمع ثقافة العنف والجريمة بكل أشكالها.
إن مقياس التخلف ليس الفقر المادي، فهذا أمر يمكن التغلب عليه بالعمل المجتهد الذكي المنتج الفردي والجماعي، إنما هو الأمية الثقافية. فهناك شعوب تعيش واقفة على الذهب والفضة، وتحت أقدامها كل أنواع الثروات الطبيعية، لكن ولكونها غريقة الأمية الثقافية لا تعي قيمة ما تحتها وما حولها، من أرض وشجر وطبيعة وبحر، فتعيش التعاسة الجماعية.
والبلدان التي يسود فيها الفساد الاقتصادي والمالي والسياسي هي بلدان تعمّها الأمية الثقافية، ويعيش مواطنوها في ظل الفوضى التي هي التربة الخصبة للفساد.
في المقابل، هناك شعوب لم تمنحها الطبيعة كثيراً من الثروة، لكنها تستطيع أن تتغلب على هذا الحظ الطبيعي التعيس بالعمل والاجتهاد المؤسس داخل مجتمع متخلص من الأمية الثقافية. بالتالي، تبني مجدها، ويمكن ذكر اليابان نموذجاً قوياً. بلد يقيم فوق زلزال متواصل على أيام السنة وأرض بركانية، لكنه استطاع أن يتحول إلى بلد التكنولوجيا والآداب والموسيقى والاقتصاد. كل ذلك لأنه استطاع أن يتخلص من الأمية الثقافية.
إذا كانت نسبة الأمية الحرفية والأبجدية أو التعليمية في بلدان المشرق وشمال أفريقيا قد بلغت حوالى مئة مليون أمي، أي الذين لا يعرفون الكتابة والقراءة، فإن الأمية الثقافية، أي الذين لا يعرفون مسرحاً ومكتبة وفناً تشكيلياً، أكبر بذلك بكثير، إنها تصل إلى أكثر من ضعفي ذلك بل وتتجاوزها.
www.independentarabia.com