يتجه الكثير من الروائيين العرب إلى كتابة روايات تاريخية أو سيرة غيرية أو تناول الواقع بزخم أحداثه، لكن في المقابل بدأت تنتشر أنماط روائية أخرى مثل أدب الخيال العلمي وأدب الجريمة. “العرب” كان لها هذا الحوار مع الروائي العراقي عمار الثويني حول أدب الجريمة وبعض القضايا الثقافية الأخرى.
تشكل ثيمة الرواية الرابعة في مسيرة الروائي والمترجم العراقي عمار الثويني “الغول البهي” فرادة عن أغلب روايات الجريمة التي عادة ما تركز على جريمة واحدة، ويبحث القارئ طول السرد عن هوية القاتل أو دافع الجريمة.
في رواية الثويني نجد أنفسنا أمام جرائم متعددة وغوص في تفاصيل الحياة النفسية والاجتماعية لشخصيات متعددة تعيش في مكان لا وجود له، يتحول بين عشية وضحاها إلى واحدة من أكثر مدن العراق سخونة بعدما يتدخل مكتب الرئيس العراقي لمعرفة الدوافع وراء هذه الجرائم، ليتم تسليط الضوء على فترة الحصار الاقتصادي للعراق بعد حرب تحرير الكويت.
أدب الجريمة
انطلاقا من كون رواية “الغول البهي” تذكر بفترة حصار العراق عقب حرب تحرير الكويت وهي الفترة التي استمرت قرابة 12 سنة، والتي نسيها الكثيرون، بل أحيانا يستشعر المرء أنها سقطت من التاريخ. نسأل عمار الثويني عن استهدافه لتلك الفترة لخلق أحداث الرواية، فيقول “فترة الحصار هي إحدى الفترات المهمة في تاريخ العراق الحديث المضطرب والمتقلقل بالعواصف السياسية منذ بداية القرن الماضي. كانت تلك الحقبة أشبه بالهدوء الذي يسبق العاصفة، والهدوء الذي حل بعد عواصف حربي الخليج، مع أنها لم تخل هي الأخرى من إشكالات سياسية وضربات عسكرية أميركية بحجة عدم التعاون مع فرق التفتيش عن أسلحة الدمار الشامل المزعومة وتشديد أميركا قبضة الحصار الخانق على الشعب العراقي”.
ويضيف “اخترت تلك الفترة لأنها لم تحظ بالكثير من الأعمال التي تناولت تفاصيل الحياة الاجتماعية وتفشي عدة ظواهر غير مألوفة مثل السطو المسلح على الطرقات والسرقات وانتشار جرائم القتل لأسباب نفسية جرّاء تأثير الحروب. ومع أن فترة الحصار تأخذ حصة الأسد من الرواية، فإن الفضاء الزمني يمتد ليشمل المراحل السابقة مثل حربي الخليج والتطرق كذلك لما حصل قبل ذلك من حوادث الفرهود لليهود، والترحيل القسري لهم، وكذلك ترحيل بعض العراقيين بحجة أصولهم الإيرانية ما خلق مشكلات اجتماعية هائلة أشرت إليها خلال النص ومن أفق بعض الشخصيات. وبالإضافة إلى ذلك فإن الاستهلال والتعقيب والخاتمة في هذا العمل أسهم في إطالة الإطار الزمني للرواية لتمتد لما حصل بعد 2003 وصولا إلى الوقت الحاضر مع النهاية المفتوحة على لسان السارد الأول غير العليم“.
يلفت الثويني إلى أنه ذهب إلى عالم الجريمة للكشف عن تلك المرحلة وما شكلته من انعكاسات على المجتمع العراقي، وسبب ذلك أنه في كل عمل يقدمه يسعى جاهدا ألا يكرر نفسه، سواء ما يتعلق بالثيمة أو المضمون ككل وأيضا من خلال التقنيات السردية. ورواية الجريمة هي أكثر أنواع السرد انتشارا ومقروئية عالميا لأنها الأكثر تشويقا، لكننا لا نجد الكثير من هذه الأعمال في الأدب العربي، والسبب كما يراه أن روايات الجريمة تحتاج إلى خيال واسع لتقديم نص جديد بينما نجد أن انشغال الكاتب العربي بالتوثيق أكثر من التخييل، فكثرت لدينا الأعمال التي تناولت السيرة “الشخصية والغيرية” والروايات التاريخية والروايات الواقعية التي تفتقر للخيال.
ويتابع الكاتب “لقد عالج كبار الكتاب العالميين الجريمة من منظور مختلف فأجاثا كريستي اعتمدت التشويق في معظم رواياتها التي تنتهي بالكشف عن هوية القاتل غير المتوقعة، وتناول دوستويفسكي في ‘الجريمة والعقاب‘ القتل من منظور نفسي، في حين تطرق ماركيز في ‘سرد وقائع موت معلن‘، ويوسا في ‘من قتل بالومينو موليرو‘ إلى الجريمة من أفق اجتماعي. وتعامل غيوم ميسو في بعض أعماله مع الجريمة من جانب اجتماعي ونفسي. وبالنسبة إلي فإن روايتي عالجت الجريمة من جانب اجتماعي وإنساني وتاريخي وسياسي ونفسي وتشويقي وخرجت من الإطار التقليدي للمجرم الذي يقتل لدافع ما إلى إطار آخر يتمثل بكون القاتل هو أكبر الضحايا كما سيكتشفه القارئ عند نهاية العمل”.
رواية الجريمة هي أكثر أنواع السرد انتشارا ومقروئية عالميا لأنها الأكثر تشويقا، لكنها قليلة في الأدب العربي
ويرى الثويني أن “الغول البهي” تمثل قمة النضج السردي بالنسبة إليه سواء لما يتعلق ببنائها الفني أو الثيمي والحكائي. ويقول “رواية الجريمة تحتاج إلى جهد كبير وتخييل واسع لأن الكاتب مطالب بتقديم نص جديد مختلف عما هو مطروح، وكذلك عما تقدمه الدراما والسينما من مواضيع متنوعة في مجال الجريمة”.
ويتابع “عند الإعداد للعمل اخترت مدينة خيالية ‘الكرامة‘، لكنها تشبه معظم المدن في وسط العراق وجنوبه ومن البيئة التي أنتمي إليها، وقررت أن يتمحور العمل حول عدة جرائم تحصل في وقت متقارب بحيث تبدو كل جريمة مختلفة عن الأخرى بعضها لدواع شرفية والبعض الآخر بتهمة السرقة أو الغيرة وثمة خيط يربط ما بين هذه الجرائم، حيث يسير هذا الخط الواهن حتى يشتد في الثلث الأخير من الرواية. لذلك تبدو كل جريمة كأنها حكاية منفصلة”.
ويبين الثويني أنه استخدم عدة تقنيات في هذا العمل مثل تعدد الرواة (الراوي العليم وغير العليم)، ورواية داخل الرواية، والاستباق والاسترجاع، والتكثيف السردي، والنهاية المفتوحة، حيث تبدأ الرواية الثانية من مشهد الإعدام الذي فرض عليه تحديا آخر يتمثل في صناعة نص مشوق جدا للقارئ وهو يعرف منذ البداية هوية القاتل. هذه المقاربات لما يتعلق بتعدد الجرائم في نص واحد واعتماد تقنيات عديدة واتخاذ الجريمة حديقة خلفية لمسرح الرواية والتركيز على الحياة الاجتماعية والاقتصادية والإعلامية والنفسية والسياسية يراها عوامل تجعل من “الغول البهي” رواية متفردة في السرد العراقي والعربي والعالمي من حيث الفكرة والتناول والتكثيف السردي والبناء الفني.
ثقافة اللون الواحد
يشير الثويني إلى أن العراق مر بفترات مهمة جدا في تاريخه السياسي والاجتماعي والاقتصادي والإنساني والنفسي حتى، فمنذ عام 1980 عندما بدأت حرب الخليج الأولى بدأ العراقيون يعيشون ويلات الحروب ومغامراتها التي لم تنته والتي كان من نتائجها احتلال الكويت ثم الحصار والاحتلال والتغيير الذي أعاد العراق قرونا إلى الوراء.
تلك الفترات عاش تفاصيلها بكل آلامها ومعاناتها ومكابداتها لذلك شخصها في معظم أعماله منطلقا من كون الرواية عملا إنسانيا قبل أن يكون توثيقيا ونصا مرحليا. ولذا ففي كل عمل من أعماله ثمة أكثر من رسالة يرغب بإيصالها، أو بالأحرى يريد من القارئ أن يخلص إليها. ففي “القديسة بغداد” تناول فترة مهمة من العراق، منذ اندلاع حرب الخليج الأولى مع إيران وحتى الوقت الحالي، كانت رسالته أن أكبر أزمة يعانيها العراق هي أزمة الإنسان، وتدميره الذي تحقق بسبب الحروب التي تمثل أكبر انهيار أخلاقي وإنساني وحضاري ومجتمعي واقتصادي.
وفي رواياته الأخرى “في ذلك الكهف المنزوي” تناول ما حصل في العراق بعد تحرير الكويت من انتفاضة شعبية جرى قمعها بوحشية بتواطؤ أميركا مع النظام السابق. حيث أراد من هذا العمل إيصال أصوات المقموعين وآهات المغيبين وأحلام الباحثين عن الحرية والتخلص من العبودية والدكتاتورية خلال تلك الفترة. وفي “مشحوف العم ثيسجر” أراد توجيه اهتمام العالم إلى أن منطقة الأهوار الشاسعة في جنوب العراق، “فينيسيا الشرق” التي يربو تاريخها على ستة أو سبعة آلاف عام والتحذير من أنها ماضية نحو الاختفاء بسبب الإهمال الحكومي وجشع دول الجوار في الاستيلاء على حصة العراق المائية.
ويلفت الثويني إلى أن فضاء الحرية في العراق بعد 2003 وفي أعقاب عقود من الكبت وفرض أيديولوجية النظام الحاكم التي خنقت كل ألوان الإبداع، قد أتاح فتح الباب على مصراعيه لنصوص جديدة وكتابات بعيدة عن “سيف الرقيب” ودكتاتوريته. لذلك ما كتب من روايات بعد عام 2003 ربما هي الأكثر غزارة في تاريخ السرد العراقي واتجه كثيرون أيضا إلى الحفر في التاريخ وفي الأقليات التي عانت من مآس هي الأخرى في هذا الوطن الملتهب.
ويضيف “لقد صدرت أعمال جيدة خلال الـ17 سنة الماضية وتناولت ما حل بالعراق منذ حرب الخليج الأولى لكن كان قي المقابل أيضا الكثير من الأعمال التي أقولها صراحة أضرت بالرواية العراقية وأبعدت الكثير من القراء للبحث عن نصوص عالمية بسبب عدم اختمار التجربة الحياتية لدى الكاتب وعدم امتلاك أدوات السرد وقلة الثقافة والمعرفة وكذلك غياب دور الرقيب سواء من داخل دور النشر المستعدة لطبع الأعمال بسرعة ما دام الكاتب مستعدا لدفع التكاليف. أضف ّإلى ذلك أن المجاملات أضرت بجودة النتاج وبعض القراءات النقدية تمتدح أعمالا تتطلب الكثير من الجهد وإعادة الكتابة لتحقق أدنى اشتراطات الرواية”.
ويرى الثويني أن الثقافة في العراق تعاني منذ عقود مديدة والمثقف يمثل في نظر السلطة الحاكمة “الشريحة المثيرة للريبة” ومصدر خوف وقلق لها. وحاليا، ثمة تغييب أو تحجيب لدور الثقافة والمثقفين في العراق بشكل متعمد، والثقافة ذات لون واحد معروف لا يختلف عن السابق في الترويج لأديولوجية السلطة، ما خلق شرخا واضحا ومتعمدا في المجتمع، فغاب الفن والإبداع والسينما مع وهن فاحش لكافة مفاصل الحياة خاصة التعليم والثقافة.
ويضيف “ما يؤسف له أن هذه الحالة من التغييب المتعمد للثقافة والمثقفين أفضت إلى عدم قبول الآخر، وأفرزت حالات من التطرف المجتمعي، وأثرت بشكل واضح في كافة مفاصل الحياة، خاصة الإنسانية. مع أنني متفائل بقدرة المجتمع العراقي على النهوض من كافة الكبوات التي تعرض لها على مر التاريخ، لكن واقع الثقافة مهول الآن، وبحاجة إلى ما يشبه “الثورة” للنهوض بها وانتشالها من سطوة القوى المتصارعة والمتصدية للحكم والتي تريد قبر الثقافة وتغييب المثقف ودفنه حيا بكل وسيلة”.
وتابع أن الرواية العراقية في الداخل والخارج تحمل الكثير من السمات الجيدة في ظل البحث والسعي الكبير من جانب الروائيين للتجديد والكتابة عن ثيمات غير مطروقة. الروائي العراقي يعيش ليكتب، لا يكتب ليعيش، وهو يملك ثقافة واسعة وإرثا عميقا وتاريخا حضاريا يمتد لآلاف السنين فضلا عن تنوع مجتمعي وأحداث سياسية مضطربة وعاصفة منذ أكثر من قرن، ما يتيح له الكثير من المواضيع لتسريدها.