حتى الأغاني لم تعد ممكنة – بقلم علي عبيد الهاملي

علي-عبيد-الهاملي-1

«علّي صوتك بالغنا.. لسّه الأغاني ممكنة». هكذا رفع الفنان محمد منير صوته بالغناء في فيلم «المصير» للمخرج يوسف شاهين، كاسراً جدار اليأس والصمت، ثم أكمل: «.. ولسه يا ما في عمرنا».

لكنّ هناك من يحاول أن يقنعنا بأن الأغاني لم تعد ممكنة في زمن «كورونا»، فقد اتخذت بعض المدارس البريطانية قراراً منعت بموجبه الطلاب من الغناء داخل الفصول الدراسية، والاكتفاء بالاستماع إليها عبر «يوتيوب»، أو الصمت خوفاً من انتشار رذاذ أفواههم في الهواء، ونقل فيروس «كورونا» داخل محيط الفصول والمدارس، في الوقت الذي فرضت السلطات فيه قيوداً جديدة في بعض مناطق الشمال ذات المستويات العالية من حيث عدد الإصابات والوفيات، مع معاودة الفيروس نشاطه، والانتشار بشكل واسع تزامناً مع انخفاض درجات الحرارة واقتراب فصل الشتاء.

القرار الذي يهدف إلى حماية الأطفال من الإصابة بالفيروس وجد معارضة لدى بعض أولياء الأمور، الذين دعوا إلى تمكين أطفالهم من العودة إلى بيئة طبيعية وداعمة، بعد أن عانوا بما يكفي من الغياب عن المدارس. هذا ما عبّرت عنه كريستين بريت، الرئيسة المشاركة لرابطة أولياء الأمور في كامبريدج، والتي قالت إن حظر الغناء هو أحد الإجراءات الضارة العديدة التي يتم اتخاذها في المدارس، إضافة إلى تقييد الوصول إلى دورات المياه. وليس الغناء وحده الذي تم منعه في المدارس البريطانية، فقد حظرت بعضها كعكات أعياد الميلاد القادمة من المنازل لمنع انتقال الفيروس.

عيد ميلاد أي طفل يحدث مرة واحدة فقط في العام، وهو اليوم الذي يشعر فيه الطفل بالبهجة، لكنّ أصدقاءه لن يستطيعوا الغناء له ولا إحضار الحلويات والكعك للاحتفال، وبسبب قواعد الإغلاق، لن يستطيع الكثيرون إقامة حفلات أعياد ميلاد أبنائهم خارج المدارس، الأمر الذي جعل أولياء الأمور يشفقون على أبنائهم قائلين: لا يمكننا تأجيل حياتهم الصغيرة إلى الأبد.

وكما تم منع الصغار من الغناء في المدارس البريطانية، فقد تم أيضاً منع الكبار من إظهار مواهبهم الغنائية في المقاهي والمطاعم. ومعروف أنه في الكثير من المدن الأوروبية تنتشر ظاهرة مطربي وعازفي المقاهي والشوارع، بالإضافة إلى الرسامين، أولئك الذين ينتشرون عادةً أيام الأحاد والعطلات، متخذين من الغناء والرسم وسيلة لكسب رزقهم أو تحسين مداخيلهم، خاصة بين فئة الطلبة الذين بالكاد يتدبرون تكاليف دراستهم ومعيشتهم حتى قبل أن ينتشر الوباء.

وبهذا، سيحرم القرار السياح من رؤية هذا المشهد الذي أصبح من سمات المدن التي يقصدونها للسياحة عادة، وإن كان الفيروس قد ضرب السياحة نفسها، وأدخل هذا القطاع الاقتصادي المهم في حالة ركود، أصبح الخروج منها مرهوناً، مثل غيره من الأمنيات، بالتخلص من الوباء.

وإذا كان لا يمكن تأجيل حياة الصغار إلى الأبد، كما يقول أولياء أمور الطلبة البريطانيين، فإن حياة الكبار قد تأجلت أيضاً في بريطانيا، حيث كشف رئيس الوزراء البريطاني، الأسبوع الماضي، عن نظام إنذار من ثلاثة مستويات، يصنف مناطق إنجلترا بحسب معدلات الإصابة، وغدت مدينة ليفربول أول منطقة يتم تصنيفها على أنها «عالية الخطورة» بموجب النظام الجديد، وتم فيها فرض حظر على الاختلاط بين سكان المنازل في الداخل وإغلاق بعض المحلات.

وفي الطريق مدن أخرى، وفقاً لتطوّر انتشار الفيروس. وهذا إجراء يبدو أنه لا ينطبق على بريطانيا وحدها، حيث أعلنت عدد من الدول الأوروبية إجراءات مماثلة، الأمر الذي سيعيدنا إلى معاناة بداية انتشار الفيروس، بعد أن كنا ننتظر نهايته مع لملمة هذا العام أوراقه واستعداده للرحيل إلى غير رجعة.

ليست الأغاني، التي اخترع منها الفنان محمد منير لقاحاً في فيلم المصير، وحدها لم تعد ممكنة في زمن «كورونا»، وإنما الحياة نفسها أصبحت صعبة هي أيضاً في ظل القيود التي فرضتها الجائحة على البشر في جميع بلدان العالم.

لهذا يواجهها البعض بالرفض والتمرد، لأن الحياة يجب أن تستمر، فالمرض ليس أشد فتكاً بحياة البشر من الحروب والصراعات التي يشهدها العالم كل يوم، كما أنه ليس أصعب من العزلة التي يفرضها على الكبار والصغار على حدٍ سواء. لذلك يطالب الناس الحكومات أن توقف هذه الحروب والصراعات قبل أن تمنع الأطفال من الغناء والاحتفال بأعياد ميلادهم، والقفز على مرحلة طفولتهم التي هي أجمل مراحل الحياة على الإطلاق.

جريدة البيان