خمسون عاما في صحبة الرواية والقصة القصيرة، عاشها الروائي المبدع إبراهيم عبد المجيد، ولا يزال يفاجئ قراءه بالمزيد من المغامرات الإبداعية مع كل عمل جديد.
لغته لم تفقد وهجها وبراعة تصويره للشخصيات تشعرك بأنهم بشر حقيقيون يمشون في الأسواق ويستقلون معك الباص في صباح شتوي باكر. ويتمتع صاحب «لا أحد ينام في الإسكندرية» بمحبة خاصة في الوسط الثقافي المصري، فهو من أكثر الكتاب قربا وحميمية مع الأدباء الجدد، يحنو على تجاربهم ويمنحهم خلاصة خبراته في الأدب والحياة… في روايته الأحدث «العابرة» يذهب بجمهوره إلى عالم جديد غير مطروق، كما عرفت بعض أعماله السينما والتلفزيون وتحولت إلى أفلام ومسلسلات، لكنه يعتب على صناع الفن السابع إهمالهم هذا الكم من الإنتاج الروائي الذي يصلح لعمل أفلام عظيمة.
حول هذا الكدح الإبداعي المتنوع، وعلاقته الخاصة بعالمه الروائي والقصصي… هنا حوار معه:
> تشتغل روايتك الأخيرة «العابرة» على قضية شائكة في مجتمعاتنا هي «الترانسجندر»، أو التحول في النوع من فتاة إلى شاب. هل ضقت بالموضوعات التقليدية وأردت أن تحلق في فضاء غير متوقع؟
– أنا لم أكتب أبدا عن موضوع تقليدي ومنذ بداياتي أحب المغامرة في غير المألوف، حتى لو كان حوله ما حوله فكتابتي تسعى لتكون جديدة ومفارقة. كما أني لا أقرر ما أكتب، يحدث أن تمتلئ الروح برغبة خفية في كتابة شيء ما ثم تقفز. موضوع «الترانسجندر» جاء أمامي، ليس على صفحات الميديا فقط، لكن حدث أن رأيت فتاة متحولة كانت تأتي إلى مقهى «البستان» بمنطقة وسط البلد بالقاهرة وقيل إنها غادرت البلاد. قرأت عن فتاة أخرى تم القبض عليها ووضعت مع الرجال في الحبس وهي فتاة تأخر إخراج أوراقها الرسمية. خايلني الموضوع وقرأت فيه كتبا طبية ومقالات عن هؤلاء المتحولين وما يحدث معهم وكيف أنهم في العالم المتحضر يتصدرون المشهد كثيرا في الفن والسياسة وغيره، ولهم في العالم تاريخ طويل بينما هم في بلادنا العربية محل انتقاد وسخرية. رأيت قضيتهم صورة للمسخ الذي نعيشه فنحن لا نستقر على شكل للوطن. من هنا بدأت روحي تتوق للكتابة عنه. المدهش أني اكتشفت أو تذكرت أني يوما كتبت مسلسلا تلفزيونيا أخرجه المخرج الكبير عمر عبد العزيز وكان بطولة حسين فهمي. في المسلسل شخصية كانت راقصة في السبعينيات سافرت إلى أميركا وعادت عام 2000 رجلا. لقد تحولت هناك، قام بدورها الفنان فاروق فلوكس. المسلسل تم تنفيذه عام 2001 بعنوان «بين شطين وميه» إذن المسألة تخايلني منذ وقت بعيد.
> لكن البعض قال إن إبراهيم عبد المجيد أراد مغازلة قراء السوشيال ميديا بموضوع شيق ومثير؟
– المهم ليس الموضوع لكن كيف تكون الكتابة عنه. أعتقد أني كالعادة قدمت مغامرة هامة في شكل الرواية، ثم إني أحترم كل الآراء بشرط أن يقرأ صاحب الرأي العمل أولا ولا يقف عند العناوين كما يحدث كثيرا على السوشيال ميديا. للأسف كثيرا ما تنشر الصحف موضوعات هامة يقف كثير من رواد السوشيال ميديا عند المانشيت أو العنوان ولا يقرأون الموضوع نفسه، ويردون على المانشيت أو العنوان دون الدخول لجوهر الموضوع. وفي النهاية الآراء مكفولة للجميع.
> تعد أحد أكثر الكتاب العرب غزارة في الإنتاج على نحو لا يكاد يضاهيك فيه سوى السوداني أمير تاج السر، ما السبب وهل تلوذ بالكتابة من شيء ما؟
– يا عزيزتي أنا تجاوزت السبعين، فأين هي الغزارة؟ عشرون رواية وست مجموعات قصصية في خمسين عاما. والأهم أني جعلت الكتابة موطني. هذا كلام يقوله عادة من هم في سن أصغر ويتصورون أن كل الناس في عمرهم وأنا أشكرهم على ذلك. كما أني سخرت حياتي كلها للكتابة. لم أشغل نفسي بكثير من مشاكل الحياة الثقافية وصراعات المثقفين على المناصب وغيره. كنت أعمل في الثقافة الجماهيرية بوزارة الثقافة ولا أذهب للعمل. كل منصب توليته تركته بسرعة بعد أن رأيت الصراعات عليه تشتعل من حولي وكنت أقول لنفسي ضاحكا: أكتب رواية أحسن من أي منصب! رضيت بالقليل لأن الكثير جدا هو متعة الكتابة بالنسبة لأي كاتب موهوب.
> تقول إن الكتابة لا تأتي من السعادة بل من التناقض والفشل، في أي محطات من تجربتك شعرت بهاتين المشكلتين فنيا وإنسانيا؟
– السعادة هي أن تكتب، أما التناقض والفشل فهو تجارب حياة. الكاتب «الناصح» يعرف أن التجارب المؤلمة ستكون زادا له في الكتابة مهما كانت القسوة. طبيعي جدا أن تكون الحياة حلوة وربما لا نتوقف عند ذلك لكن غير الطبيعي هو الفشل في قصص الحب مثلا أو الفشل في مستقبل أفضل للوطن. هنا يبني الكاتب عالما أجمل حتى ولو ظهرت فيه شخصيات شريرة فهي لا تكره كاتبها ولا يكرهها وإن كرهت الشخصيات الأخرى حولها وكرهوها.
> وماذا عن الدموع… هل تبكيك الكتابة في أثناء استغراقك في كتابة نص ما؟
– هذا يحدث أحيانا من فرط التوحد مع الشخصيات فهي تصبح الوطن الحقيقي للكاتب وفراقها يكون صعبا. يبدو للكاتب أنه حقيقة. بعد أن أنتهي من كتابة رواية أظل شهورا أبحث عن شخصياتها في الطرقات ناسيا أنها من خيال ولا ينقذني إلا البدء في رواية جديدة.
> بعد مرور أربعين عاما على مغادرة الإسكندرية، لماذا لا تزال تشعر بالغربة في القاهرة؟
– هذه الغربة قلت كثيرا في السنوات الأخيرة بعد أن كتبت أكثر من رواية عن القاهرة، لكن غربتي الآن في الاثنتين معا. لم تعد الإسكندرية ولا القاهرة مدينتي، صارتا خرابا للأسف. إن ما نراه كل يوم عن التحول في العمران جعل المدينتين ذكرى للأسف الشديد.
> ثلاثيتك عن الإسكندرية: لا أحد ينام في الإسكندرية، طيور العنبر، الإسكندرية في غيمة». منحتك المجد، بينما لم تلق رواياتك عن القاهرة مثل «في كل أسبوع يوم جمعة» و«هنا القاهرة» نفس الصدى، هل يزعجك أن يقول بعضهم إنك لا تتألق إلا إذا كتبت عن عروس البحر المتوسط؟
– لا يزعجني أي رأي، وكما أرى ذلك أرى غيره. ما أكثر الذين أحبوا بهيام روايات «عتبات البهجة» و«هنا القاهرة» و«في كل أسبوع يوم جمعة» و«السايكلوب» وأخيرا «العابرة». لا يوجد نوع واحد من القراء ولا نوع واحد من النقاد.
> روايتك «في كل أسبوع يوم جمعة» تحولت إلى مسلسل، وتم إنتاج فيلم عن نص لك هو «الصياد واليمام»، كيف تقيم التجربة؟
– أنا هنا مثل نجيب محفوظ أشكر من قام بذلك ولا أعلق إلا بالشكر والعرفان. أنا أعرف أن السينما صورة والأدب لغة، لذلك لست من هواة التعليق إلا بالإيجاب والشكر والتقدير. والحمد لله نجح مسلسل «في كل أسبوع يوم جمعة» ونجح فيلم «الصياد واليمام» وأضافا إلى شهرة الروايتين.
> برأيك لماذا يتجاهل صناع الدراما هذا الكم المهول من النصوص الروائية عربيا والتي تصلح مادة لأعمال مرئية عظيمة؟
– كتبت كثيرا في هذا الموضوع. إنه شيء محزن. الرواية عماد السينما منذ نشأتها. لكنهم الآن يعانون من أزمات في الإنتاج من ناحية وأشياء أخرى كثيرة يطول الحديث فيها. أتمنى أن يعود الإنتاج الروائي إلى السينما بشكل كثيف، كما كان يحدث يوما في مصر حين كانت السينما المصدر الثاني للدخل القومي بعد نبات القطن. لم يعد لدينا قطن ولا سينما. نحن نعود إلى الوراء للأسف كثيرا.
> أنت أحد أكثر الأدباء هوسا بالسينما، ما السر وراء هذا الشغف؟
– شغف منذ الطفولة وخصصت له كتاب «أنا والسينما». كانت الحياة حولنا تشجع على الذهاب إلى السينما، وكانت المدارس تأخذنا في رحلات إليها أو تعرض لنا أفلاما في المدرسة. من السينما عرفت روايات عالمية عظيمة، وروايات مصرية صنعت منها الأفلام فكانت نافذة كبرى على القراءة، ووجدت شغفا أن أعرف الكثير عن السينما وتاريخها وتأثرت بها كثيرا في الكتابة، فصرت أبحث عن الصورة أكثر من الحكي وهذا جهد كبير لكاتب كانت السينما وراءه.
> أخيرا، لماذا الليل دون غيره اتخذته طقسا مفضلا لممارسة فعل الكتابة؟
– الكتابة وحدة. يمكن أن تكون الوحدة بالنهار في غرفتي لكن ثمة شعورا يظل معي بأن العالم يتحرك حولي. بالليل أشعر أن الله خلقني الآن وحدي، ومع الموسيقى الكلاسيكية التي أحبها وكتبت كل أعمالي وأنا أسمعها، أنتقل إلى برزخ بين السماء والأرض ولا أشعر أن حولي عالما وبشرا غير ما أكتب ومن أكتب عنهم. هذا أنا وليس ضروريا أن يكون غيري كذلك. كل وما يهوى.
جريدة الشرق الأوسط