قريباً من بحر طرطوس بما لا يزيد على أمتار قليلة، يقيم حيدر حيدر (حصين البحر- 1936) بصحبة زوجته أسمهان. هناك في بيت ريفي احتضن أول صرخة لـ”الفهد” يواظب صاحب “الوعول” حتى اللحظة على الكتابة والصيد. الروائي السوري استقبلنا في حديقة بيته الذي يسكنه منذ عام 1985 بعد عودته من أسفاره الطويلة بين دمشق وبيروت والجزائر وقبرص وباريس، ثم دعانا إلى حجرة مكتبته، لنجلس بصحبة زهاء خمسة آلاف كتاب. هو الأديب الرجيم والمغضوب عليه، والكاتب الأكثر عزلةً وابتعاداً عن الأضواء والصحافة. هنا في بيته الصغير الذي يقول إنه حصيلة شقاء العمر فرد حيدر وليمته.
كيف يقرأ صاحب “أوراق المنفى” تجربته اليوم في ضوء ما حدث في بلاده عبر عشر سنوات من الحرب؟ “أصبحنا في عالم جديد مختلف عما كنا عليه قبل أربعين عاماً، لقد طاولت التغيرات العالم كله، لا سيما بلادنا. دخلنا في أفق مسدود، ولم يعد هناك أمل في تغييرات كنا نتوقعها مسبقاً مثل الثورة والتغيير الجذري، لقد أصبحت هذه الأحلام من الأمور التي تنتمي إلى النوستالجيا، فالجيل الذي ولدنا فيه كان جيلاً مهزوماً، هُزمت آمالنا في التغيير، وتبديل العالم الاجتماعي ثقافياً واقتصادياً وسياسياً. اليوم أشعر أنني وصلتُ إلى نقطة اللاأمل. الأنظمة السياسية وفسادها كسلطات ودول أهملت المواطن واعتبرته لا شيء، مما أوصلنا أن نصير غرباء في بلادنا”.
تراجع دور المثقف
يقف حيدر عند حال المثقف السوري اليوم، وكيف أمسى في ظرف الحرب، خصوصاً بعد تراجع دوره وفقدان معظم المنابر التي كان من الممكن أن توفر له فرصة تجديد خطابه، والاقتراب من نبض الشارع: “المثقفون تمزقوا، لم يعد هناك ما يسمى المثقف العضوي، كذلك انقسام المثقفين ممن وقفوا مع النظام أو ضده، أو ممن هاجر أو رفض كل شيء، وهناك منهم من اضُطهد وعُذِّب، ومن قُتِل. فتكت الأنظمة بالمثقف كما لم يحدث في الأنظمة الفاشية والنازية التوتاليتارية. نعيش اليوم في عالم يسوده الدمار الممنهج. دمار الإنسان أولاً، ودمار المثقف ثانياً، وانتهاءً بانعدام أي أمل بتغيير المجتمعات. حالي اليوم كحال كل الناس المجوّعين والمضطهدين والمحكومين. ففي الحالة الأمنية أمسينا نعيش في غيتوهات. حتى الكتابة أمست اليوم غير فعّالة، فما أردنا أن نعبّر عنه في التنوير والتغيير كتبناه، وإذا أردتُ اليوم أن أكتب مثلما كنتُ أكتب سابقاً، فالرقابة سيفها أطول من مساحة البلاد. لم يعد هناك صوت مضاد يكشف عورات الأنظمة من فساد وقمع واستبداد. لقد مضى ذلك الزمن الذي نستطيع الوقوف فيه ضد كل هذا الخراب. مرحلة الستينيات كانت مرحلة مضيئة، وكثير من المثقفين في بلادنا كانوا صدى لطلائع ما بعد الثورة الفرنسية. حينها كنا نفكر أننا سنغير ونبدّل من الواقع القائم، إلى أن أصبحنا في وضع العالم كله يرثينا عليه. فهناك الخراب الثقافي، والخراب الاجتماعي، والدمار الاقتصادي”.
هل أجرى صاحب “الزمن الموحش” مراجعة لأفكاره وقناعاته بعد كل هذا اليباب؟ يبتسم ويقول: “مراجعتي تمر في هذه الأمور، لم نعد دولاً مستقلة، وسورية صارت اليوم مقسّمة بعد الأحداث التي جرت فيها منذ عام 2011، مثلها مثل اليمن وليبيا والعراق ولبنان، لقد طال هذا الوضع حتى الحيز الجغرافي لهذه البلاد. فأين وكيف يبقى لنا أي أمل أو إمكانية الخروج من هذا الوضع غير الإنساني وغير المعقول؟ اليوم حتى الحيوانات تعيش أحسن منا. أصابتنا شروخ عميقة جداً، أولها الجريمة الطائفية، وبدل الولاء للوطن صار الولاء للطائفة”.
بعد انتزاع دور المثقف لصالح السلطات السياسية والدينية، هل من طريقة لإعادة هذا الدور؟ يجيب: “من يدفع الثمن اليوم هو المثقف الذي لم يساوم، ففي النهاية إما أن يكتب هذا المثقف غير المساوم شيئاً ويخبئه، أو يصمت، حتى إذا كتب روايةً أو كتاباً إما يصادر بالقمع والمنع والمحاكمة كما حدث معي في “وليمة لأعشاب البحر” التي مُنعت لاثني عشر عاماً، أو أن تعيش في بيتكَ وتصمت مثل أي حيوان، وأنتَ مقهور على شعبكَ الجائع والمُهان، وليس في يده سلاح يواجه به هذا المناخ المدمّر. الحقيقة راجعتُ ماذا أستطيع فعله بعد تحليل طويل وعميق، وشعرتُ أنني لا أستطيع أن أفعل شيئاً، فحتى لو كان لديّ مشروع روائي سيكون خارج البلاد العربية، أقول الصمت أجدى وهو أكره الأشياء إليّ. حتى إن كنتَ معتاداً أن ترفع صوتكَ، وتسمي الأشياء بمسمياتها ستشعر بعد هذا بالمرارة، وأنكَ أصبحتَ لا شيء”!
“مفقود” رواية جديدة
نسأله عن روايته الأخيرة “مفقود” وعن أسباب اختياره للأسلوب الوثائقي لكتابتها؟ يقول حيدر: “إنها رواية وثائقية، والصوت فيها كان عالياً ضد الطائفية والإرهاب، فالوطنية هي الأساس، والشعور أنكَ ضد هذا الإرهاب الذي يحدث في الداخل والخارج على حدٍ سواء، دفعني إلى تحقيقها، لهذا كتبتُ “مفقود” كموقف كان عليّ أن أسجّله، وبراءة ذمة من هذا الجنون، ومن هذه الطائفية البغيضة. كانت “مفقود” إدانة لكل الأطراف التي أسهمت في قتل المواطن السوري، ومحاولة إذلاله. وهنا دعني أقول إنه إذا كان ثمة تكثيف للجهل المطلق سيكون هو في شخص الرقابة، إذ على الكتّاب ألا يغمضوا أعينهم عن الحقيقة كما تريد هذه الرقابة، وأن يكشفوا المستور الذي تحاول السلطات بأدواتها التقنية والسياسية منعه، مما يذكرني هنا بما قاله ممدوح عدوان عن هذه السلطات عندما كتب: “إنهم يكذبون علينا حتى في نشرات الطقس”.
بدت تجربة حيدر حيدر انعطافة في تاريخ الرواية السورية، وسفر خروج من رواية تسجيل الواقع، وتقليده، وعن هذا يقول: “كنتُ واحداً مع أبناء جيلي ممن أدخلنا تغييراً على ما كان يسمى في زمننا بالرواية الاجتماعية الوصفية التي كانت تُعنى بالأحداث والوقائع. لقد أدخلنا تغييراً جذرياً على الرواية السورية اسمه الأسلوب التعبيري الذي اهتم بالعالم الداخلي، فالرواية التعبيرية التي كتبتها دخلت في مجالات علم النفس واللاشعور الفردي والجماعي، الأحلام والكوابيس عند الإنسان. لقد كان الزمن في الرواية الوصفية الاجتماعية يجري بشكل وقائع يومية مملة، على عكس الرواية التعبيرية التي أحالت الزمن المستمر إلى زمن متناوب ومتقطع، فلم يعد الزمن لديّ مستمراً، بل مموّجاً. ويظهر هذا التغيير في أسلوب تيار الوعي عند جويس وبروست وفوكنر وفرجيينا وولف، أضف إلى أن الذاكرة هنا أمست ذاكرة متنقلة. هذا الأسلوب واحد من التغييرات الجذرية في الرواية العربية، حتى أنها طاولت بعض الأدباء الذين كتبوا القصة القصيرة. رواية الزمن هذه كانت رواية الأعماق النفسية، والاقتراب من المحرّمات وكسر التابو بأسلوبٍ راقٍ، وليس بأسلوبٍ فج ومباشر، كما حدث مع بعض الروائيين الذين يكتبون في الجنس، ويشعرون أنهم يقومون بفتحٍ جديد في عالم الكتابة! فالديني والسياسي والجنسي نقترب منه فنياً. هناك شيء اسمه أخلاقية اللغة، وعمق هذا الأسلوب البُعد عن الإسفاف، وتعرية الأشياء بشكلٍ كامل. الاقتراب من المحرّمات الثلاث يكون في الرواية بشكلٍ نقدي وإنساني. وأعتقد أن الرواية العربية سيكون لها مستقبل إذا سلكت هذا الاتجاه. تشعر أحياناً أن بعض الكتّاب الجنسويين يقتربون من التابوهات بطريقة منفّرة”.
الريف والمدينة والمنفى
تنقل حيدر حيدر في نصوصه بين فضاءات وأمكنة مختلفة، فكيف يفسر لنا هذا التنوع والقدرة على التكيف مع المكان الروائي؟ يقول: “أنا من بيئة ريفية بعيدة عن المدن، مع أنني دخلت عوالم المدينة وسلوكياتها. في المرحلة الريفية كتبت “حكايا النورس المهاجر” وهي من عالم الريف، وفي “الفهد” هناك جوانب ريفية أرّخت لسيرة متمرد في بيئته الريفية، كما أرّخ الكثير من الكتّاب سيراً متمردة في بيئاتهم. على عكس رواية “الزمن الموحش” التي كتبتُها بعد الانخراط في الأجواء الثقافية والسياسية لمدينة دمشق. الكاتب والأديب هو ابن تطورات حياته. لقد كتبت عن الريف مثلما كتبتُ عن المدينة والمنفى. الثقافة لا علاقة لها بمعرفة العالم، بل هي رؤيا مغايرة للعالم، تراها في الريفي أو المديني أو المغترب. عموماً الكاتب مغترب وجودياً. عنصر الاغتراب في الأدب، وإحساسكَ بالغربة عن العالم. الغربة الوجودية الداخلية هي المركز الأساسي لديمومة كتابتكَ. هي شعورك بأنكَ من هذا العالم ولستَ فيه، غريب عنه، عن الوقائع المُفجعة التي تحدثُ فيه. هي اغتراب نفسي، وأنا لدي نوع من هذا الاغتراب الوجودي إزاء العالم، كأنكَ ترفض الوحشي في العالم. الغائب هنا هو عالم الإنسان، الإنسان كأعلى قيمة وجودية. لكن مع كل هذا الانقسام والقهر والعهر أقول بكل قوة أنا لستُ من هذا العالم. بل من عالمٍ آخر. عالم المحبة والأخلاق، أنتمي إلى ما هو جميل في هذا العالم، غريب عن هذا السواد المدمِّر. موقفي من الدين هو الاغتراب. موقفي من الوضع السياسي السائد هو الاغتراب. من الوضع الاجتماعي من قمعٍ وذل وجوع هو الاغتراب”.
وإلى أي حد استطاع حيدر حماية عالمه الداخلي مما يحيق به في الواقع السوري الراهن؟ يجيب: “أعتقد أن الأزمة الحقيقة للكاتب الذي يرى الظلام والنور هو أنه مرميٌّ في هذا العالم، وقد يهادن في أمورٍ صغيرة. لكن موقفي من الدين والسياسة والثورة لم يتغير إطلاقاً من الداخل. أحياناً تُجامل المجتمع في أمور تحدث في الصيرورة الحياتية اليومية. الحياة فيها مواقف معينة عنيدة ومضادة. لقد كانت الظروف التي عشتها خارج سورية قاسية، وكانت تتحداني دائماً لتغيير مواقفي الأساسية في المجتمع، لكن لدي لا يوجد مساومة إطلاقاً، فحيدر حيدر منذ عام 1967 لا يزال هو هو لم يتغير. موقف الصلابة وعدم مساومة الأنظمة، والإحساس بأن ما يجري في العالم العربي هو دمار للبشرية. سواء في سورية أو في بلدان عربية أُخرى”.
وعن الدور السياسي الذي لعبه الكاتب في المعضلة السورية يسرد لنا نشاطه في هذا السياق: “سياسياً تلقيتُ دعوات من المعارضة، وقد حضرتُ مؤتمر سميراميس، وساهمتُ فيه كما ساهمت في مؤتمر جرى في المركز الثقافي بطرطوس قدمتُ فيه ورقة عمل، وقلتُ فيها إن سورية تمر في خطر يقتضي من نُخبها النظر بدقة إلى الوضع السياسي، وأن يكون هناك دستور جديد علماني وديمقراطي، وأن تكون هناك فترة محددة لرئاسة الجمهورية لخمس سنوات، تُجدد لمرة واحدة فقط. وأن يكون هناك إلغاء للمادة الثامنة من الدستور، التي تنصّب حزب البعث قائداً للدولة والمجتمع، كما دعوتُ في الورقة التي قدمتُها إلى فصل الدين عن الدولة. كما طالبتُ في هذه الورقة بأن يكون اتحاد الكتّاب مستقلاً وليس مرتبطاً بالقيادة السياسية، وأن تكون له علاقة جانبية بوزارة الثقافة. وقد نالت هذه الورقة إعجاب الكثيرين من النظام والمعارضة على حدٍ سواء، لكن الذي حدث بعدها لا يدعو للتفاؤل”.
نضال سلمي
ويضيف حيدر: “لقد حاولت أنا وبعض اليساريين البعثيين واليساريين المستقلين، والديمقراطيين والشيوعيين المنشقين عن البكداشيين، إلى جانب قوى من رابطة العمل، حاولنا أن نكوّن نواة لنضال سياسي سلمي، وإيجاد هيئة وطنية أو اتحاد وطني سوري من كل هؤلاء، بحيث كان معترفاً بنا من السلطة قبل اندلاع الأحداث، ولكن ما لبث أن وقع الصدام مع حزب البعث الحاكم، وعلى الرغم من كل الخيبات أقول إن هناك بريق أمل في حال حدوث تسوية سياسية شاملة تضم كل مكونات المجتمع السوري، وأن يكون الولاء للوطن أولاً، وليس للانتماءات الطائفية أو أي انتماء آخر. بغض النظر عن مجموعات كردية وبقايا آشورية وبابلية أو فئوية قومية، مع أنني شخصياً لا أرى الواقع الراهن إلا أسودَ، ويزداد حلكةً، أنا شخص اللاأمل، لكن في أعماقي أتمنى أن تكون هناك تسوية تلم شمل كل السوريين في دولة علمانية ولجميع الأطراف، وأن تكون هناك صحف سياسية لجميع التيارات، وأحزاب تعمل على إيجاد عقد اجتماعي جديد، ووفاق وطني بات يتمناه كل مواطن سوري”.
“الإنسان الواحد لا يكون اثنين إلا إذا تحوّل إلى شخص انتهازي لا تعنيه إلا الامتيازات والرواتب”، يعقب حيدر ويقول: “لستُ من هؤلاء على الإطلاق. أعيش على راتبي التقاعدي من التعليم، وحقوق كتبي من دور النشر، وأزرع الأرض أمام بيتي وأعيش منها أنا وعائلتي. ولم أتقدم إلى أي جائزة عربية باستثناء جائزة الرواية العربية في القاهرة. الجائزة التي منعها عني الإخوان المسلمون في مصر، وذلك بعد موقفهم مني بعد صدور روايتي “وليمة لأعشاب البحر- نشيد الموت” ولم تُعطَ للطيب صالح إلا بعد عشر سنوات من موته! هذه الجائزة مُنحت لكل البلاد العربية ما عدا سورية. حتى حنا مينة مات ولم يأخذها، بل انسحب منها في إحدى الدورات احتجاجاً على سياسة القائمين عليها”.
ماذا يكتب حيدر اليوم؟ يجيب: “انتهيتُ أخيراً من كتابة سيرتي الذاتية بعنوان “يوميات الضوء والمنفى” وستصدر قريباً عن دار ورد في دمشق، وفيها مسيرتي منذ خروجي من القرية إلى طرطوس، وبعدها إلى حلب، ومنها إلى دمشق وبيروت، وصولاً إلى قبرص والجزائر وباريس. هي سيرة وقائع مديدة وطويلة، وفيها أكشف عن أسرار للمرة الأولى، لا أستطيع أن أُفصح عنها هنا. مختصر القول هي رحلتي خلال أكثر من نصف قرن منذ رحلتُ عن “حصين البحر” وعدتُ إليها عام 1985″.
الرواية والصياد
انخرط حيدر في الأحداث السياسية في بلاده منذ كان في العشرين من عمره، وشارك في ثورة التعريب الجزائرية بتدريسه اللغة العربية في عنابة، كما أسهم في تأسيس اتحاد الكتّاب السوريين، وتُرجمت أعماله إلى اللغات الألمانية والإنجليزية والفرنسية والإيطالية والفرنسية. وظلت أعماله مقروءة، وتحولت روايته “الفهد” إلى فيلم سينمائي بتوقيع المخرج الراحل نبيل المالح، حاز العديد من الجوائز في المهرجانات الدولية. لكنّ صاحب “التموجات” ظل في أعماقه محباً للطبيعة: “الطبيعة هي أُمّي، وانتمائي لها يعود ربما إلى نشأتي الريفية، إلى الأرض التي خبرتُ شِعابها، والبحر الذي آنستُ كائناته وغضب أمواجه. أنا صياد بطبيعتي، عشتُ حياتي في الصيد البري والبحري، علاقتي بالطبيعة علاقة عضوية، ومع البحر تحديداً، فبعد عودتي من المنفى عشتُ عشرين عاماً أصيد سمكاً في جزيرة النمل قبالة شاطئ طرطوس. الطبيعة جزء من حياتي مثلها مثل الكتابة والقراءة. فمثلما لا أستطيع النوم قبل ساعتين من القراءة، أيضاً لا أستطيع العيش من دون صيد، بعكس علاقتي مع المدن التي تسودها الضوضاء والعلاقات الإنسانية المزيفة. إنني شخص عفوي لا أحب الأشياء المصطنعة المعقدة. هكذا كنتُ أسافر في رحلات داخلية لأشهر عدة إلى بوادي دير الزور والرقة طلباً للطرائد. ما بين الروائي والصياد والفريسة هناك جانب وحشي أناني، وإرضاء للذات. القتل في الصيد البري جعلني أدرك أنني كنتُ مغالياً في كل هذه الكمائن للحيوان والطيور والأسماك. ومع التقدم في العمر بدأتُ أشعر بالندم على طرائدي. فألغيت صيد البَرّ من ذاكرتي، وأبقيتُ على صيد البحر. لقد فقدتُ اللذة أخيراً بقتل طيرٍ جميل، أو صيد أرنبٍ وديع، وكتبت عن ذلك قصة هي بمثابة إدانة للصياد والقاتل بعنوان “البومة الذهبية” وشرعتُ في تدجين الجانب الوحشي من شخصيتي. لكن مهلاً حتى الطيور والأسماك غادرت سورية بالمعنى المجازي، ولو أتيح للبحر أن يغادر هذه البلاد لغادرها. أنظر إلى الموت هنا، إلى الحرائق التي تلتهم الغابات السورية القديمة، إلى الأنهار التي جفت، والبحار التي تلوثت. اليوم صار لديّ يمامات أطعمها بيديّ، وهن صديقاتي اللواتي كنتُ في سالف الأيام أطلق النار عليها، ربما كان ذلك انعكاساً للنزعة التشاؤمية، للعالم الفاسد الذي أصبح خواءً من حولنا. عالم منحط ومقموع، نعامل فيه كالحيوان، لا نأكل، ولا كهرباء، لا رغيف، لا وقود للتدفئة أو للطهو. لقد حوّلتنا السلطة إلى مساجين، ألا يحقُّ لنا الاحتجاج والصراخ ضمن الغرف المغلقة؟”.