يعيش المجتمع وسط خطابات متعددة وحضور مربك في مواجهة الخطابين السياسي والديني وتداخلهما الذي يصل إلى حد التخبط، وفي ذات القوت تنأى المؤسسات المصرية عن المشاركة المجتمعية الفاعلة، الأمر الذي يشكل ضغوطا قوية على الشخصية المصرية التي تلوذ بالصمت واللامبالاة، وهو ما يطرح الكثير من التساؤلات حول ما يجري، يحاول الباحث في علم الاجتماع الدكتور سعيد المصري الإجابة عليها.
القاهرة – اعتبر استاذ علم الاجتماع سعيد المصري، أن المؤسسات الحكومية والدينية فشلت إلى حد الآن في تجديد الخطاب الديني.
وقال المصري في حوار مع “العرب” إن المعضلة الكبرى التي نواجهها هي عدم الفصل بين الدين والسياسة.
وأضاف أن استخدام مفهوم الخطاب الديني وضرورات تجديده شاع في السنوات الأخيرة دون أن يكون هناك إطار محدد له، ودون الاتفاق على حد أدنى من الفهم على معنى التجديد ومعاييره ومجالاته والقائمين عليه. وكل حوار حول الخطاب الديني وتجديده يظل ملتبسا وغير قابل للتراكم في اتجاه إيجابي نحو التجديد. ومن ثم يصاحب الجدل الراهن حول التجديد مواقف ملتبسة، وكل من يتحدث عن الخطاب الديني وتجديده لديه فهمه الخاص وبذلك يظل الضجيج حول تجديد الخطاب الديني لا يبرح حدود اللغو بقصد أو بغير قصد.
وأوضح المصري في حديثه “في الواقع لا يوجد خطاب ديني واحد، بل هناك خطابات متعددة بحسب اختلاف مضامينها الفكرية ومرجعياتها الفقهية، واختلاف الجماعات والمؤسسات التي تساهم في إنتاجها وتداولها”.
وشدد بقوله أن الوضع الراهن يشير إلى وجود أربعة أنماط من الخطابات الدينية الشائعة، ثلاثة منها تنتمي إلى حركات الإسلام السياسي بروافدها الثلاثة الأساسية وهي الخطاب السلفي والخطاب الإخواني والخطاب الجهادي، في مقابل خطاب ديني مؤسسي صادر عن المؤسسات الدينية ممثلة في الأزهر والإفتاء والأوقاف. وهناك اختلاف واضح في حظ تلك الخطابات من القوة والتأثير ف ي الجمهور، فليست كل صور الخطاب الديني الراهنة على نفس القدر من الشيوع والانتشار والتأثير في الوعي.
وعزا الباحث المصري ذلك إلى الجمود الحالي وضعف المؤسسات الدينية الرسمية عن القيام بهذه المهمة، وانشغالها بصراعات داخلية على من يملك حق السيطرة على المجال الديني، ورغبتها في لعب أدوار سياسية سواء علي مستوى الهيمنة على المجتمع باسم الدفاع عن الدين، أو الهيمنة السياسية بموجب القدرة علي منح الشرعية السياسية للنظام السياسي المؤازر لها. ولهذا فإن المعضلة الحقيقية التي تواجه تجديد الخطاب الديني تتمثل في عدم وجود إطار واضح يسمح بانطلاق عمليات التجديد إلى غايتها الحقيقية دون لبس أو تباطؤ أو صراعات اجتماعية وسياسية مصاحبة تؤثر سلبا على السلام والاستقرار الاجتماعي والسياسي.
علاقة الدولة بالدين
يؤكد المصري أن المعضلة الكبيرة التي تواجه المجال العام في مصر تتمثل في عدم الفصل بين الدين والسياسة، سواء على مستوى الخطاب أو على مستوى المؤسسات، وهذا ينطبق على علاقة الدولة بالدين كما ينطبق أيضا على علاقة التنظيمات الدينية بالشأن السياسي، فالدولة تظل بحاجة إلى الدين بقدر حاجة المؤسسات الدينية إلى الدولة، وهو الأمر الذي مكن حركات الإسلام السياسي من أن تصبح أكبر قوة حشد وتأثير في الرأي العام في مصر خلال العقود الأربعة الماضية، وبفضلها اكتسب الدين أهمية بالغة في أي ترتيبات سياسية.
وبغض النظر عن المقولة السائدة بين المفكرين بأن عودة الدين إلى السياسة ظاهرة عالمية، فإن خصوصية السياق المصري والعربي تشير إلى أن علاقة الدين بالسياسة تهدد الاستقرار الاجتماعي والسياسي بسبب وجود إيمان عميق لدى كل العاملين بالشأن الديني بأن مشروع الدين في تأسيس مجتمع إسلامي لا ينفصل عن مشروع قيام الدولة الإسلامية، لاستعادة الخلافة التي أسقطها الاستعمار. وبالتالي فإن كل نشاط ديني يتجه بصورة أو بأخرى نحو تحقيق هذه الغاية بكل السبل الممكنة الدعوية والإصلاحية والراديكالية.
وعن المعركة بين رجل الدين والنخب الثقافية يقول المصري: يلاحظ أن الحضور الديني في المجال العام يقترن دائما بالصراع السياسي مع أي قوى أخرى تخالف الرؤية الدينية المفروضة. وهذا ينطبق على المؤسسات الدينية الرسمية وغير الرسمية على السواء، فكلاهما، يعمل تحت مبرر نُصرة الدين والذود عنه ضد كل من لا يعترف به أو يقلل من شأنه في الحياة.
ولهذا يخوض كل العاملين بالشأن الديني معركتهم الأساسية مع النخب والتيارات العلمانية في المجتمع وإزاحتها من كل منصات الرأي العام. بل يمكن القول إن جوهر الصراع الكبير ببن المؤسسات الدينية الرسمية وغير الرسمية يكمن في عملية احتكار المجال الديني، ومن ثم يدعي كل طرف بأنه الأقدر على حماية الدين من مخالب العلمانية، والقضاء على كل معاقلها الفكرية والاجتماعية والسياسية في المجتمع.
وهذا يفسر السبب الحقيقي وراء سعي المؤسسات الدينية الرسمية إلى التواجد بعمق في المجال العام والسعي الحثيث للانفراد بتشكيل الرأي العام باسم العودة إلى الإسلام الحق أو محاربة الفكر المتطرف. وبذلك يصبح وجود الدين في المجال العام مرتبطا بحالة من عدم الاستقرار الاجتماعي والسياسي والاستقطاب الفكري والاجتماعي والسياسي الشديد.
ويلفت المصري إلى أن العقل المتطرف نابع من بنية في التفكير متعصبة وتؤمن بتصورات ومعتقدات قائمة على التمييز بين الناس بحسب خصائصهم وانتماءاتهم، وهذه السمات شائعة لدى الكثير من الناس في المجتمع بدرجات متفاوتة، غير أن التطرف الديني يمثل أخطر أنواع التطرف والذي يجعل الانتماء لدين معين مبررا للامتياز على الآخرين والوصاية عليهم، وفي أشد حالات التطرف الديني يكون الانتماء لدين محدد مبررا لعدم الاعتراف بأي ديانات أخرى ولا حق لأحد للاعتقاد فيها ومحوها من الوجود وقتال من يتشبثون بأي دين مختلف والقضاء عليهم.
وعن هذه البنية من التفكير يقول الباحث المصري إن لها جذورها في الثقافة السائدة النابعة من تراث الاستعلاء سواء في الفولكلور أو المجال الديني، بالإضافة إلى أسباب مجتمعية أخرى تتعلق بالجهل وانخفاض مستوى التعليم، ومناخ القيود على الحريات، وإضعاف النخب العلمانية المثقفة عن القيام بدورها في الاستنارة، وضعف الشعور بالأمل في المستقبل لدى الكثير من الشباب، وبطبيعة الحال فإن اختزال التطرف الديني في وجود جماعات للإرهاب، واختزال المواجهة في الاعتبارات الأمنية يعبر عن قصور في النظر واللجوء إلى طرق مختصرة في حل مشكلة الإرهاب وعدم الصبر على التغيرات الكبرى بعيدة المدى في مجالات التعليم والثقافة ودور الفن في المجتمع والاقتصاد.
وعبر عن اعتقاده بأن ما يجري من تغيرات حقيقية في ملف التعليم الآن بدءا من مرحلة رياض الأطفال يشكل لبنة أولى، لأن هذا النوع من التطوير لو قدر لها الاستمرار يمكن أن يمثل نقلة نوعية في بناء تفكير جيل جديد يدرك ذاته وعالمه بعيدا عن قوالب التفكير النمطية التي تنتج التعصب.
الحلول الأمنية غير كافية
يرى المصري أن الحلول الأمنية وحدها قد تكون مهمة في مناطق الصراعات المسلحة خاصة حين تكون تلك المناطق ساحات قتالية خالية من السكان. أما إذا كنا بصدد مجتمعات حدودية متاخمة لبؤر من التوتر الإقليمي وذات طبيعة قبلية لا تعترف بحدود الدولة، ولا تندمج في الاقتصاد الرسمي، وتحتضن التنظيمات السلفية الجهادية من منطلق وحدة الشعور بالأخوة الدينية المتجاوزة لمفهوم المواطنة، فإن سياسة الدولة لاستعادة سيادتها بموجب الحلول الأمنية الراهنة وحدها تحتاج إلى إعادة نظر وتقييم لما يجري على الأرض من ترتيبات ليس فقط في المناطق الحدودية وإنما أيضا داخل المحافظات التي تتشكل فيها بيئة خصبة لتوليد تنظيمات إرهابية داخل المجتمع المصري.
وفي هذا الصدد يتعين أن تكون المواجهة مع التنظيمات الجهادية من خلال معركة تنمية شاملة اجتماعية واقتصادية وثقافية شاملة تعمل بالتوازي مع المواجهة الأمنية لتحقيق الأمن القومي وذلك عبر حزمة متكاملة من التدابير والسياسات، وأظن أن ما يجري حاليا من تنفيذ لاستراتيجية مصر 2030 في التنمية المستدامة يمثل خطوة كبيرة على طريق تحقيق نوعية حياة أفضل وتعليم جيد واقتصاد قوي قادر على التنافسية، وتوليد فرص عمل وتحسين مستوى معيشة السكان ومكافحة الفقر، وكلها جوانب مهمة لتجفيف منابع التطرف والتعصب والإرهاب.
وبحكم دراسته الميدانية حول المجتمع البدوي في مصر يؤكد المصري أن الدولة المصرية في سيناء تواجه صعوبات بالغة في بسط سيادتها وشرعيتها على كل السكان والأرض في شبه جزيرة سيناء ككل وبالأخص محافظة شمال سيناء. ولهذا تتجه العمليات العسكرية إلى التوسع لملاحقة التنظيمات الجهادية وأنشطة الجماعات السلفية.
الدولة تظل بحاجة إلى الدين بقدر حاجة المؤسسات الدينية إلى الدولة، وهو الأمر الذي مكّن حركات الإسلام السياسي من أن تصبح أكبر قوة حشد وتأثير في الرأي العام في مصر خلال العقود الأربعة الماضية
وفي هذا الصدد يتعين أن نفهم المعضلة التي تواجه الأمن القومي المصري في سيناء والتي تتمثل في ثلاثة تحديات أساسية وهي: هشاشة حضور الدولة في سيناء، وتوغل التنظيمات السلفية الجهادية في البنية الاجتماعية للسكان، والدور المحوري للتنظيمات الإرهابية ذات الطابع الإقليمي في إدارة اقتصاديات التطرف والفوضى في المناطق الحدودية. وتعاني منطقة سيناء من مشكلات مزمنة، فأغلب السكان مستبعدون من الموارد والخدمات، والفراغ السكاني هائل، والنزاع محتدم بين الدولة والسكان على ملكية الأرض، في ظل وجود روابط اجتماعية للسكان عابرة للحدود، مع انخفاض عام في الثقة الاجتماعية لدى السكان.
ويلفت المصري إلى أن المحصلة النهائية لكل ذلك هي هشاشة سلطة الدولة وضعفها الشديد في بسط سيادتها على المناطق المهمشة والحدودية في سيناء. ولهذه الأزمة مثيل في الداخل على الحدود الغربية في محافظة مطروح وفي الحدود الجنوبية في حلايب وشلاتين.
وهناك على المستوى الإقليمي أمثلة أخرى مشابهة لمناطق هشة على الحدود قابلة للحياة خارج سيطرة الدولة في العراق وسوريا وليبيا واليمن بحيث تبدو تلك المناطق بيئات خصبة تغري بهيمنة التنظيمات الجهادية وإدارتها للفوضى تمهيدا لعزل تلك المناطق عن سلطة الدولة المركزية وتكوين نواة صلبة لمجتمع إسلامي. كما أن المناطق الحدودية بطبيعتها الجيوستراتيجية تعطى الفرصة للمجموعات الجهادية للارتباط بتنظيمات جهادية أخرى في الخارج للحصول على الدعم اللوجستي والمناورات القتالية بصورة أكبر.
ويخلص الباحث المصري بأنه على ضوء ذلك يمكن القول إن السياسة الأمنية الحالية تقف فقط عند حدود الصراع مع التنظيمات الجهادية المسلحة وتختزل أزمة سيناء في مواجهة الإرهاب دون أن تأخذ في حسبانها أن الأزمة الحقيقية تتمثل في الفجوات التي كونت مجتمعات هشة خارج سيطرة الدولة، وأن المعركة الحقيقية هي استعادة سيطرة الدولة بمؤسساتها ومعلوماتها وبرامجها التنموية الشاملة على تلك المناطق الهشة في سيناء.
ارتباك الدولة
يقول سعيد المصري إن التطور التكنولوجي والحياتي أربك المجتمعات، بعد أن اعتاد الأفراد على الخيارات التي كانت توفرها الدول. وإن الإرباك يصل إلى الدول ذاتها خصوصا تلك التي اعتادت على أن تستمد شرعيتها من السيطرة الكاملة على وسائل الإعلام والثقافة.
وأضاف “لهذا تبدو معالم الارتباك واضحة في انتشار الشائعات والنظر إليها كأنها حقائق، وانتشار مواقع التضليل والتطرف والبذاءة على أوسع نطاق، ومن ناحية أخرى تظهر ملامح ارتباك الدول في الملاحقات الأمنية لبعض النشطاء ومستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي بمبررات أمنية وأخلاقية، ونشر منصات للرد على الشائعات ومحاولات توجيه الرأي العام”.
وأشار المصري إلى أن الكثير من الناس يفتقدون التعليم الجيد الذي يمنحهم الثقة في أنفسهم وفي تفاعلهم الجيد مع العالم، ويفتقدون تعلم ممارسة الحرية التي تمنحهم القدرة على التعبير عن آرائهم بمسؤولية. كما أن الدول بحاجة إلى تغييرات في فلسفة الحكم تدرك من خلاله أن العالم تغير والناس في سبيلها إلى المزيد من التغير وأن الشرعية السياسية ممكنة في ظل الحرية والتعددية والمواطنة الكاملة وأن السلام والاستقرار والإجماع ممكن في ظل التعددية والديمقراطية.
ويشير المصري إلى أن الحكم على دور المؤسسات الثقافية في المجتمع يمكن من ثلاث زوايا تتعلق بوظائفها الحقيقية: الأولى تتمثل في كون المؤسسات الثقافية جزءا لا يتجزأ من المجال العام الذي يلتقي فيه المثقفون والنخب الاجتماعية للتعبير عن الرأي بحرية والهموم المجتمعية، على اعتبار أن المؤسسات الثقافية أداة فاعلة لممارسة حرية التعبير في تجلياتها المختلفة عبر النقاش العام في القضايا المجتمعية، والنقاش حول مضمون الكتب والأعمال الفنية في السينما والموسيقى والمسرح والحرف التراثية، والوظيفة الثانية للمؤسسات الثقافية أنها تمثل أدوات في تعزيز المشاركة الثقافية، وللأسف فإن الجماعة المثقفة التي تلتف حول المؤسسات الثقافية تمثل شبكات مصالح بما يحول دون قيامها بدورها كفاعل في تشكيل الرأي العام من ناحية ومن ناحية أخرى تمنع تعزيز وصول الثقافة للجميع. أما في ما يتعلق بالوظيفة الثالثة وهي مساندة خطط وبرامج التنمية المعنية بقضايا الفقر والجريمة والطلاق والعنف والمساواة الاجتماعية والتطرف والتعصب والصحة العامة وثقافة العمل وتعزيز ثقافة الطموح والنجاح والتطلعات المستقبلية وحماية البيئة.
قال المصري بخصوص “هذه القضايا تشكل تحديات كبيرة تعوق التنمية وعلى المؤسسات الثقافية والمثقفين العمل بقوة في التوعية المجتمعية بهذه التحديات ومنح الناس الأمل في تغيير أنفسهم ومساندتهم للصالح العام، وهذه أمور غائبة أيضا بكل أسف عن المثقفين الذين اعتادوا أن تكون الثقافة للثقافة وليس للتنمية، على الرغم من الجهود الكبيرة التي تبذلها وزارة الثقافة حاليا في تعزيز دور الثقافة في خدمة التنمية بموجب الالتزام برؤية مصر للتنمية المستدامة 2030”.
أخيرا وحول الهموم التي تشغله في ما يجري في المجتمع المصري وتصوراته لمعالجتها، يوضح الباحث في علم الاجتماع أن ما “يواجه المجتمع المصري مشكلات كثيرة مصاحبة للتحولات الاقتصادية والسياسية، أبرزها العنف والبطالة خاصة بين الشباب، وانخفاض مستوى المعيشة وتفاقم أوضاع الفقر بفعل التضخم وتآكل الطبقة
الوسطى، وهذه المشكلات تحتاج إلى جهد كبير في رصدها وتبصير الحكومة والمجتمع المدني بكيفية إيجاد حلول لها في ظل شراكة مجتمعية بين الحكومة والمجتمع المدني والقطاع الخاص. وهذه المشكلات رغم أهميتها القصوى، لا يجب أن تشغلنا عن تحديات أخرى ثقافية”.
صحيفة العرب