يسعى بعض الكتّاب والنقاد إلى جمع مقالات لهم كانوا نشروها في الصحف، داخل كتب، إما حفاظاً عليها من التبعثر والنسيان، وإما للإفادة منها بصفتها مقالات نقدية تواكب الحركة الأدبية وتؤرّخ لها وتمثل مرجعاً لمقاربة مرحلة ما، أدبياً وثقافياً. ولكن نادراً ما تبرز كتب من هذا القبيل يمكن وصفها بالمرجعية، فيغدو معظمها أقرب إلى “تجميع” المقالات كيفما اتفق، ومن غير منهج، ما يُسقط عنها قيمتها النقدية والعلمية. من حق النقاد والصحافيين طبعاً أن يجمعوا مقالاتهم حتى وإن كانت أقرب إلى العجالات وذات منحى انطباعي على عادة المقاربات الصحافية. إلا أن ثمة مقالات مهمة لنقاد وكتّاب معروفين، هي أعمق من كونها مادة صحافية، تحتاج فعلاً إلى أن تجمع في كتب كي تظل في متناول القارئ أياً يكن موقعه، نظراً إلى أهميتها وبعدها النقدي والمعرفي.
أصاب الناقد الأكاديمي السعودي سعد البازعي في جمع مقالات كان كتبها عن الرواية وقضايا أخرى تتصل بها، في كتاب صدر له حديثاً بعنوان “مصائر الرواية” (المؤسسة العربية للدراسات والنشر 2020). وعلى الرغم من أهمية المقالات بذاتها وبما تحمل من آراء ومقاربات مهمة هي حصيلة مساره النقدي الطويل والدؤوب، فهو أصرّ على أن يعيد النظر فيها بعيداً من صفتها “الكرونيكية”، مدرجاً إياها في سياقات نقدية، تحت عناوين “موضوعاتية”، ما جعلها تتحول مقالات بحثية، منفصلة ومتصلة في آن واحد. وجاء اختياره العنوان العام ذا الدلالات البيّنة “مصائر الرواية” ليؤكد طبيعة الكتاب النقدية ومسعاه وهويته، على الرغم من اختلافه عن بعض كتبه التأسيسية التي تعد من المراجع التي لا بد من العودة إليها نقدياً. وقد يوفر هذا الكتاب لقارئه فرصة التمتع بقراءته، بحسب مقولة رولان بارت، نظراً إلى سلاسة الأسلوب وعمق التحليل وسعة الرؤية، عطفاً على تناوله روايات رائجة ومعروفة لدى شرحة كبيرة من القراء، منها ما فاز بجائز البوكر العربية أو أدرج في لوائحها القصيرة مثل رواية “فرانكشتاين في بغداد” لأحمد سعداوي أو “موت صغير” لمحمد حسن علوان أو “الطلياني” لشكري المبخوت وسواها.
وربما كتب البازعي عن بعض هذه الروايات في جريرة فوزها أو بروزها في لوائح البوكر، ومن هنا تغاضيه عن روايات أخرى واكبتها أو رافقتها ولكن بعيداً من جو الجوائز. يقول البازعي في رد على سؤال طرحته عليه استيضاحاً، إن “المقالات كتبت بالفعل قبل جمعها في كتاب، لكنّ عملية الجمع والتحرير أدت إلى إعادة قراءة عدد كبير منها لاستكشاف ما إذا كانت متصلة بعضها ببعض. وهذه عملية تحدث عند نشر أي كتاب يتضمن مقالات أو أوراقاً بحثية كتبت في أوقات مختلفة. أحياناً لا يتبين أن هناك خطوطاً مشتركة عدا القضايا الكبرى، كأن تكون حول الرواية أو النظرية النقدية أو مسألة فكرية عامة، كما حدث في أكثر من كتاب سابق لي. في حالة كتاب “مصائر الرواية”، كانت الخطوط المشتركة واضحة وأظنها كانت في الذهن حين انتقيت الروايات للكتابة حولها، أي أن موضوعي “العنف” و”الأقليات” أمران أديا إلى ذلك الانتقاء. ومن يطلع على كتب سابقة لي مثل “المكون اليهودي في الحضارة الغربية” يدرك اهتمامي بالأقليات الإثنية بشكل خاص. أما العنف فحاضر بقوة في واحد من أحدث كتبي وهو “مواجهات السلطة” كما يشير العنوان نفسه. لكن هذا الكتاب معني أيضاً بالأقليات الفكرية، أي النخب في مواجهتها للضغوط السياسية والاجتماعية وغيرها”.
“العين القارئة”
يوضح البازعي في المقدمة المهمة والضافية، مقولة “مصائر الرواية” التي اعتمدها عنواناً، منطلقاً من السحر الذي تمارسه الرواية في معنى “الحكاية” على الأشخاص منذ مرحلة الطفولة صعوداً إلى مراحل العمر الأخرى، إلى أن تتغير “العين القارئة” فلا تبقى عيناً مندهشة ومسحورة بل تبحث عن أمور أخرى مثل الشخصيات والوقائع والحبكة والبدايات والنهايات والصلة بالعالم وما تقول الروايات عنه. وهذا التحول الذي يطرأ على “العين القارئة” يحيل إلى ما يسميه الناقد “مصائر الرواية” أي إلى “ما تصير إليه الحكاية حين تكبر في العمل الروائي، وما تنطلق منه وتصدر عنه وتصير منه”. وما تصير الحكاية إليه هو مصيرها المشرّع على “الدلالة الجذرية للصيرورة والمصير”. وما تصيره الرواية إنما هو “الشكل الذي تحولت إليه”، وهو الصورة أيضاً التي تنتهي إليها الرواية بما تحمل من هموم وقضايا وشؤون، ومن رؤى وآمال ومآسٍ، عبر النسيج السردي. وقد سعى الناقد إلى تبيان هذه الأمور، عبر روايات معينة، هي أصلاً مشغولة، بقضايا إنسانية، عامة أو فردية. فالرواية كما يقول البازعي هي “خطاب اجتماعي، مهما بلغت أدبيته وتجريبيته بل وفردانيته”. الرواية أيضاً “فعل لغوي أدبي تشاركي”، وهذا ما يفترض وجود الآخر الذي تتجه الرواية إليه. انطلاقاً من هذه الوجهة ينظر البازعي إلى ما يسميه “انشغال” الروائيين (بعضهم طبعاً) بقضايا مثل العنف والأقليات. وهاتان القضيتان أو الثيمتان تدور في فلكهما خمس عشرة رواية هي محط اهتمام الكتاب. ترى هل سبقت مقولة “مصائر الرواية” موضوعات هذه الروايات وثيماتها أو قضاياها أم إنها استُخلصت منها؟
لا يغفل الناقد المتعة الحكائية التي تنشدها مثل هذه الروايات على الرغم من ارتكازها إلى قضيتَي العنف والأقليات، فالرواية أصلاً ليست مقالاً أو تاريخاً أو عنصراً غير أدبي. وإذا كان الأدب، كما يقول البازعي، يفقد أدبيته عندما يبتعد عن متعة الفن، فإن نقد الأدب يبتعد عن مهمة رئيسة من مهماته، إن هو أهمل الجانب الفني في النص الروائي. ويرى البازعي أن كلما ارتفعت قيمة القضية أو الثيمة، وعمقها وجديتها، ارتفعت معها صعوبة الصياغة الأدبية تحديداً. من هنا يبدو أن موازنة النصوص الأدبية بين القضايا والجماليات تسري على القراءة النقدية. ويفسر البازعي مقولة “المقاربة” بـ”معنى الاقتراب من الهدف من دون الوصول إليه”. وفي هذا المعنى تمسي المناهج والنظريات “مقاربات” أي “مساعيَ للاقتراب من الهدف، الذي قد يكون تفسيراً أو شرحاً أو برهاناً، من دون تحقيقه تمام التحقيق”. وهذا الاقتراب يصدق على إنتاج دلالات النص الأدبي وجمالياته، وكذلك على دراسة هذا النص وتذوقه عبر تقصي هذه الدلالات والجماليات. ولعل النص الأدبي الذي يقاربه النقد يقارب أيضاً العالم، مقترباً من التجارب والأفكار والعلاقات الإنسانية والمشاعر وكذلك اللغة.
يشير البازعي إلى أن ثمة صعوبة في الاقتراب من الموضوعات البالغة الحساسية ليس لجدتها وعمقها فقط، وإنما لإثارتها ردود فعل حادة، لا سيما تلك التي تمس محرمات سياسية ودينية واجتماعية، ومنها موضوعا العنف والأقليات. وهنا تكتسب مقولة “مصائر” دلالة أخرى عندما تقترب من المخاطر، مخاطر السرد، أو مصادر الخطر. وفي أشارة أخرى مهمة يوضح البازعي التباساً او إشكالاً قد يلمسه القارئ، في شأن تصنيفه الروايات في خانات عدة، فيؤكد أن الروايات ولا سيما منها العنف والأقليات المدروسة في الكتاب، ليست موسومة فقط بهذين الموضوعين، وليست محصورة في إطارهما فحسب، ويقول: “فلا رواية العنف هي رواية عنف ولا رواية الأقليات محصورة في الأقليات”. وفي هذه الإشارة رد البازعي على الأسئلة التي قد يطرحها أو سيطرحها القارئ على هذا المستوى. فقد يرى القراء أن رواية “فرانكشتاين في بغداد” هي رواية خيال علمي بمقدار ما هي رواية عنف. وقد يفاجأ القارئ أيضاً في إدراج رواية “خالد” لأمين الريحاني في خانة “الأقلية” بينما هي تنتمي إلى ثلاثية الأدب الرؤيوي مع كتاب “النبي” لجبران و”مرداد” لميخائيل نعيمة بحسب ما يتفق عليه نقاد لبنانيون كثر. وقد تنسحب هذه الملاحظة على روايات أخرى تمت مقاربتها بصفتها روايات عنف وأقليات، بينما هي تنتمي أيضاً إلى تيمات أخرى. هنا يحضر المفهوم التأويلي الذي ارتآه البازعي للعنف والأقليات، والذي قرأ الروايات من خلاله. ويدرك القارئ الملم بعالم الروايات أن أعمالاً روائية عدة غابت عن الكتاب وبعضها كان يستحق فعلاً أن يحضر، ومنها مثلاً بعض روايات الحرب الأهلية اللبنانية، بعض الروايات الفلسطينية والروايات الجزائرية التي كتبت تحت أثر العشرية الدموية.
العنف والأقلية
لعل مفهومَي العنف والأقليات هما مفهومان في غاية الرحابة والتعدد لاسيما في العصر الحديث خصوصاً في الحقبة الأخيرة التي شهدت ما يسمى العنف الديني والعرقي، وصعود بعض الحركات الأصولية التي صادرت مفهوم العنف وحرّفته. وكانت حادثة 11 سبتمبر (أيلول) في نيويورك علامة في سيرورة مفهوم العنف هذا. يرى البازعي في تقديمه باب “رواية العنف” أن العنف تحول إلى ظاهرة في العقود الأخيرة، لا سيما بعد انتشار ظاهرة الإرهاب، وكان هذا العنف محط اهتمام الباحثين والدارسين وكذلك الفنانين والأدباء. ثم يستعرض العلاقة التاريخية التي قامت بين الأدب والعنف، وتحديداً بين الرواية والعنف “بوصفها جنساً أدبياً بالغ الانتشار أو ربما مهيمناً في عالم اليوم”. ويتوقف عند روائيين عالميين كتبوا في حقل العنف على اختلاف تجلياته. ويوضح أن العنف الذي هو في صدده عنفان: سياسي واجتماعي وما بينهما من مساحة مشتركة يبرز فيها العنف الديني الذي كما يصفه “مزيج من الاثنين”. فظاهرة العنف السياسي في الرواية العربية تتبدّى في صورة حروب ومعتقلات وقمع مباشر، بينما يظهر العنف الاجتماعي كأنه ذو طابع ديني أحياناً. ويعترف أن ما هاله هو حجم العنف في روايات البوكر العربية للعام 2014 التي قرأها عندما كان عضواً في لجنة التحكيم.
أما في باب “رواية الأقلية” يسعى البازعي إلى تأويل مقولة “الأقلية” التي مُنحت تفسيرات عدة في الفلسفة وعلم الاجتماع والإنتربولوجيا والتاريخ، مستخلصاً أن الأقلية أمر نسبي، فهي ليست مرتبطة دائماً بالعدد، بل أيضاً بالقوة والتأثير. فالعدد الذي يدل على الأقلية في مكان قد يعني الأكثرية في مكان آخر. وللنوع أو الجنس أيضاً دور في تحديد الأقلية. ويخبر كيف استوقفته خلال إقامته في أميركا أيام الدراسة، مقولة “الأقلية النسائية”، مع أن النساء قد يفقن الرجال عدداً. وعندما يكون الكاتب نفسه منتمياً إلى إحدى الأقليات، يكتسب الأمر مقداراً من الأهمية والإثارة. ويرى البازعي أن أعمالاً روائية عربية كثيرة إما تصدر عن وعي الكاتب بانتمائه الأقلوي أو تفاعله مع أقليات تحيط به وتشكل جزءاً من النسيج الاجتماعي الذي يعيش فيه. ولعل الروايات التي اختارها للبحث في هذا الباب من الكتاب، تنتمي إلى تينك المجموعتين، لكنها منتقاة بالضرورة، فالهدف ليس تقصي الموضوع أو التوسع فيه. وهذه الملاحظة مهمة أيضاً، لأنها ترد على أي سؤال يطرح حول اقتصار البحث على روايات من دون غيرها، وقد تكون أشد تمثيلاً منها في الشأن الأقلوي. والأمثلة غير قليلة هنا. ويقول البازعي إن من يقرأ الروايات المختارة يلحظ الحضور المتواتر للأقليات الإثنية والدينية في مجتمعات عربية مسلمة: أكراد، يهود، مسيحيون… والوقوف أمام هذه الظاهرة أو تناولها، تستدعيه اللحظة التاريخية الراهنة. فالأقليات في المنطقة العربية تعرّضت وتتعرّض للمضايقة والاضطهاد الجسدي والنفسي، ما أدى إلى خلخلة البنى الأجتماعية والثقافية عطفاً على المعاناة الإنسانية البالغة القسوة.
وأفرد البازعي بابين آخرين في الكتاب، الأول بعنوان “الفكر الروائي” ويضم محاضرات مهمة ألقاها في مناسبات عدة ومنها: الرواية والفلسفة، الرواية بين الرؤية والأيديولوجيا، صورة المثقف في الرواية العربية، والثاني بعنوان “الرواية المترجمة” وهو مقتصر على قراء رواية “سيدات القمر” لجوخة الحارثي وترجمته إلى الإنجليزية مع تغيير العنوان. أما المحاضرات فتتطرق إلى قضايا إشكالية لا سيما قضية الفلسفة وعلاقتها بالإبداع الروائي قديماً وحديثاً، بدءاً من الفارابي وابن طفيل وانتهاء، عالمياً، بنيتشه في “هكذا تكلم راردشت” وهمنغواي في “الشيخ والبحر” وسارتر في “الغثيان” وميلان كونديرا في “خفة الكائن غير المحتملة”، وعربياً، بنجيب محفوظ وعبدالله العروي ويوسف زيدان ومحمد حسن علوان في شغله على ابن عربي وابن رشد… وكنت أتمنى ألا يغيب هنا الروائي يوسف حبشي الأشقر، رائد الرواية اللبنانية الحديثة والذي امتدح نجيب محفوظ روايته “لا تنبت جذور في السماء” ذات البعد الفلسفي الواضح. ومعروف أن بعض المفكرين النهضويين كتبوا روايات فلسفية مثل فرنسيس المراش وفرح أنطون وشبلي الشميل. ولعل قضية العلاقة بين الفلسفة والرواية قضية عميقة وواسعة وتحتمل الكثير من التحليل والشواهد، لكن البازعي قدم فعلاً مفاتيح مهمة للدخول إلى هذه العلاقة والتوسع بها. وهذا أصلاً ديدن كتابه “مصائر الرواية” وغايته، فإلى تطرقه العميق إلى قضايا الرواية وعلاقاتها المتشعبة، وفلسفتها وأبعادها التقينة، اعتمد البازعي لغة جميلة وغير معقدة، تقترب من اللغة الإبداعية نفسها، لكن بغية تقديم الأفكار والمواقف النقدية.